23 كانون الأول 2024 الساعة 09:05

يوم فشلت طائرات بيغن في اصطياد «الرأس الفلسطيني الصلب»

2020-07-25 عدد القراءات : 1409
• كيف كانت الأجواء السياسية والعسكرية محتدمة، ولماذا في العام 1981؟
• ما هي الاستراتيجية التي اعتقدت حكومة بيغن أن بإمكانها إزالة العقدة الفلسطينية من أمام مشروع كامب ديفيد؟
• لماذا اختارت حكومة بيغن مقر قيادة الجبهة الديمقراطية دون غيرها في مدينة بيروت؟
• كيف ردت القوات المسلحة الثورية للجبهة الديمقراطية على جريمة الفاكهاني وما هي «الهدية» التي أرسلت بها إلى حكومة بيغن؟
• كيف وصفت دوائر إعلام العدو جريمة الفاكهاني وبررت ارتكابها أمام الرأي العام؟


■ كان يوم السابع عشر من تموز للعام 1981 يوماً صيفياً شديد الحرارة، احتلت الشمس سماءه وسلطت الضوء على كامل مدينة بيروت، وهي تتابع بقلق وبشغف أنباء العدوان الإسرائيلي على المناطق الجنوبية من لبنان، في حرب شنتها إسرائيل أطلق عليها رجال الإعلام «حرب الجسور».
وعند قرابة الساعة الثانية عشرة، حلقت في سماء العاصمة اللبنانية، وعلى مستويات مختلفة، أسراب من الطائرات الإسرائيلية، وقبل أن تنطلق طلقات الأسلحة المضادة للطائرات التي كانت منتشرة في أرجاء المدينة، دوت انفجارات كبرى، هزت أركان العاصمة اللبنانية، وزرعت الرعب في نفوس المواطنين الذين هرعوا من منازلهم في الطوابق العليا نحو الملاجئ، وقد ساد الاعتقاد أن إسرائيل نقلت حربها إلى بيروت.
بعد أن انقشع دخان الحدائق التي أشعلتها الاغارات الجوية، وتلاشى الغبار الذي ارتفع في أعمدة شاهقة في السماء، تبين المشهد على حقيقته: لقد طالت الغارة الإسرائيلية حي الفاكهاني في غربي بيروت، حيث المقرات القيادية للمقاومة الفلسطينية.. أما الهدف المباشر فكان المقر القيادي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في عدد من المباني المتجاورة في قلب حي الفاكهاني.
كان الدمار شاملاً، والأشلاء في كل مكان، مشهد لم تعرف له مدينة بيروت مثيلاً.
الجريمة في سياقها السياسي
وقعت جريمة حي الفاكهاني، واستهداف المقر القيادي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، في أجواء سياسية محتدمة ألهبت المنطقة.
• فعلى الصعيد العربي كان النظام الساداتي في مصر يعيش عزلة عربية بعد ذهابه إلى صلح منفرد مع دولة الإحتلال الإسرائيلي في معاهدة كامب ديفيد، والتي فشل، في إطارها، في جر منظمة التحرير الفلسطينية إلى المفاوضات مع إسرائيل للوصول إلى اتفاق «سلام» يقود إلى بناء حكم إداري ذاتي للسكان على الأراضي المحتلة، وتبقى السيادة بيد إسرائيل وسلطات الإحتلال.
لم تتوقف الدوائر الساداتية عن العبث في المنطقة، بدعم من الإدارة الأميركية برئاسة رونالد ريفان، فأرسل مبعوثه إلى المنطقة السفير فيليب حبيب، ومساعده موريس درابير، للترويج لحلول مشابهة لكامب ديفيد، كان النظام في الأردن من أكثر المرشحين للاشتراك فيها، لكن العقدة بقيت متمثلة في الموقف الفلسطيني، الذي رفض تقديم تنازلات عن الحقوق الوطنية المشروعة، مدعوماً من قبل تحالف عدد من الأنظمة العربية، شكلت محوراً في مجابهة محور كامب ديفيد، حمل اسم «جبهة الصمود والتصدي». وبذلك التقى الموقفان الفلسطيني والسوري، بشكل خاص في مواجهة كامب ديفيد، وفي مواجهة التيارات اليمينية اللبنانية التي كانت تطالب بإخراج المقاومة، والجيش السوري من لبنان، وتبدي استعدادها للدخول في مفاوضات مع الجانب الإسرائيلي للوصول إلى «معاهدة سلام» تخرج لبنان من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي.
• ومن الطبيعي أن تتعرض م.ت.ف، وكذلك سوريا، بشكل خاص، لضغوط أميركية باعتبارهما يشكلان العقدة أمام استكمال مشروع «السلام الإسرائيلي – الأميركي» الذي كانت معاهدة كامب ديفيد نموذجه الفاقع.
وفي الوقت نفسه، كان من الطبيعي أن تلجأ الولايات المتحدة وإسرائيل إلى مشاغلة المقاومة الفلسطينية والجيش السوري في لبنان، عبر الأدوات الأمنية المحلية، وعبر عصابات ميليشيا سعد حداد، في الشريط الحدودي المحتل من قبل إسرائيل، فترسل سياراتها المفخخة، في أنحاء بيروت الغربية، ومدن أخرى في لبنان، حيث للمقاومة الفلسطينية وللجيش السوري وللحركة الوطنية اللبنانية تواجد ونفوذ، عسكري وسياسي وجماهيري.
كانت الحرب السياسية محتدمة، تقودها الولايات المتحدة، تستهدف الثلاثي في المنطقة: منظمة التحرير الفلسطينية والقضية والحقوق الوطنية الفلسطينية، سوريا ودورها الإقليمي في مواجهة نموذج كامب ديفيد والمشروع الأميركي – الإسرائيلي، والحركة الوطنية اللبنانية، في موقعها السياسي والوطني والتقدمي، ودورها في مقاومة جر لبنان إلى المستنقع الإسرائيلي ودعمها للقضية الفلسطينية ولصمود سوريا.
المناطق المحتلة.. جبهة مفتوحة
لم تكن جبهة الصدام في لبنان، هي ساحة الصدام الوحيدة مع دولة الإحتلال. فقد شكلت الأرض الفلسطينية المحتلة رأس الحرية في الصدام المفتوح، عبرت عن ذلك بالعديد من الأساليب كان من أهمها:
• الهبات والانتفاضات المتنقلة بين مدن الضفة الفلسطينية وقطاع غزة ومخيماتها، وبلداتها وقراها، ما أبقى المناطق المحتلة في حالة اشتعال وصدام دائم، عبر مقاومة شعبية متحفزة، لجأت إلى كل أساليب الحرب الشعبية، في الصدام مع الإحتلال، ومقاطعة بضائعه وإغلاق المدن في وجهه في تجربة شكلت المقدمة الضرورية لانفجار الانتفاضة الوطنية الكبرى عام 1987.
وقد حاولت سلطات الإحتلال الرد على هذه الهبات، من خلال اللجوء إلى إبعاد قادة الحركة الوطنية الفلسطينية إلى لبنان وسوريا، في اعتقاد واهم أنها بذلك تقضي على الرأس القيادي للحركة الشعبية الفلسطينية. لكن ما لم تفهمه سلطات الإحتلال أنها بذلك أججت مواقف الحركة الشعبية، وردود فعلها رداً على قرارات الأبعاد، وأنها بذلك أفسحت في المجال للحركة الشعبية لتقديم صف جديد من القادة الوطنيين الميدانيين، هم الذين تصدروا العمل الإنتفاضي في العام 1987 وأصدروا النداء الثاني للقيادة الوطنية الموحدة الذي صاغه أحد قادة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
• حرب الشوارع بالأسلحة والأدوات القتالية الممكنة، من أعمال فدائية طالت دوريات الإحتلال الإسرائيلي، في أنحاء المناطق المحتلة، والكمائن، والتفجيرات وغيرها من الأعمال التي كبدت قوات الإحتلال وعصابات المستوطنين خسائر فادحة؛ من بينها تلك العمليات التي نفذتها «قوات الداخل» الذراع العسكري للجبهة الديمقراطية في الضفة والقطاع، في قلب القدس المحتلة وأنحاء الضفة الفلسطينية.
• العمليات الفدائية من خارج الحدود، وبشكل خاص عبر الشريط الحدودي لجنوب لبنان، الذي كانت تحرسه ميليشيات سعد حداد التابعة للاحتلال الإسرائيلي. وكثيراً ما نجحت دوريات الفدائيين في تجاوز كمائن عصابات حداد، وحواجزها، والوصول إلى قلب فلسطين، من بينها العمليات المشهود لها للقوات المسلحة الثورية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والتي شكلت إلى جانب باقي الفصائل الفلسطينية النموذج الناجح، ضمن الإمكانيات المتاحة، لمقاومة الإحتلال عبر الحدود، بدوريات قتالية تشكلت في معظمها إلى حد  كبير من أبناء مخيمات اللاجئين في الشتات وبشكل خاص في لبنان وسوريا والأردن، دون إهمال أو نكران الدور المهم الذي لعبه العديد من المناضلين العرب الذين التحقوا في صفوف القوات المسلحة الثورية للجبهة الديمقراطية.
التعاظم الوطني.. والرد الهمجي
وكما تعترف الدوائر الإعلامية الإسرائيلية، فقد شعرت حكومة مناحيم بيغن في إسرائيل بتعاظم نهوض الحركة الشعبية الفلسطينية أولاً، وتعاظم الدور الفاعل في الميدان لقوات المقاومة الفلسطينية، التي توفرت لها أسلحة نوعية، مكنتها من توجيه ضربات مؤلمة للمستوطنات الإسرائيلية عند الحدود اللبنانية الفلسطينية من مدافع ميدان ذات المدى البعيد، إلى الراجمات الصاروخية، إلى الأسلحة المضادة للطائرات والمضادة للدروع، فضلاً عن امتلاك كفاءات وقدرات قتالية متقدمة لصف واسع من القادة العسكريين في المراتب العليا، ولصف واسع من القادة الميدانيين والمقاتلين المختبرين.
 وكما تعترف الدوائر الإعلامية فإن حكومة بيغن شعرت بفشلها في إخماد الثورات الشعبية داخل المناطق المحتلة. وفشل الولايات المتحدة في جر أطراف أخرى إلى مشروع كامب ديفيد ما دامت م.ت.ف، تشكل عقبة في الطريق، الأمر الذي يتطلب إزاحة المنظمة عبر خطة ذات هدفين:
- ضرب الرأس القيادي للمنظمة وفصائلها من جهة.
- وتدمير البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية من جهة أخرى.
وفي إطار هذه الإستراتيجية، التي أثبتت هي الأخرى فشلها، كانت «حرب الجسور» العدوانية التي شنتها قوات العدو، افتتحتها بغارة جوية استهدفت في 9/7/1981 أحد مواقع المدفعية التابعة للجبهة الديمقراطية بلدة حبوش قرب النبطية في جنوب لبنان. ألحقتها بسلسلة من الغارات طالت مواقع القوات المشتركة اللبنانية – الفلسطينية في أنحاء الجنوب كافة، في القواطع الغربي والأوسط والشرقي، وأحراج الناعمة، وغيرها من المناطق.
أما الضربة المميزة فتلك التي استهدفت بها طائرات العدو الجسور التي تربط مناطق الجنوب كلها، من صور، والنبطية وراشيا وحاصبيا وغيرها مع العمق اللبناني في صيدا والبقاع. في خطة أرادت منها قطع طرق إمداد المقاومة في المناطق الجنوبية من لبنان، واستنزافها في أعمال عسكرية تؤدي إلى تدمير بنيتها التحتية، من مراكز قيادية، وغرف عمليات، ومستودعات ذخيرة، ومواقع قتالية.
وفي هذا السياق، جاءت الضربة الإسرائيلية الغادرة للمقر القيادي للجبهة في الفاكهاني ظهر يوم 17/7/1981.
لماذا المقر القيادي للجبهة الديمقراطية؟
شنت الغارة على المقر القيادي للجبهة الديمقراطية ثلاثة أسراب من طائرات العدو.
• السرب الأول كانت مهمته قصف المقرات القيادية للجبهة الديمقراطية وتدميرها تدميراً تاماً بأكثر من إغارة.
• السرب الثاني تولى مشاغلة الأسلحة المضادة للطيران من رشاشات ثقيلة من عيارات 14,5 و 23، و100 ملم، فردية وثنائية ورباعية، وصواريخ سام 7 المحمولة على الكتف المضادة للطائرات.
• السرب الثالث تولى حماية الأجواء منعاً لتدخل طرف ثالث.
وقد اعترفت حكومة بيغن بمسؤوليتها عن العملية الإجرامية التي طالت المقرات القيادية للجبهة الديمقراطية في الفاكهاني، وعندما سئل رئيس حكومة العدو «لماذا استهدفتم مكاتب نايف حواتمة دون غيره؟ أجاب «لقد استهدفنا الرأس الصلب من بين الفلسطينيين».
أما قادة العدو الإسرائيليين فقد أوضحوا أن استهداف مقر قيادة الجبهة الديمقراطية في بيروت، كان لأجل قطع الرأس القيادي بما يمكننا من تشتيت عناصر م.ت.ف، في الجنوب.
وقد علقت الصحف الإسرائيلية على الغارة الإسرائيلية على الفاكهاني فأوضحت أن ثمة حساباً طويلاً وعسيراً بين إسرائيل وقيادة الجبهة الديمقراطية التي تتمتع، كم وصفتها الصحافة الإسرائيلية بصلابة سياسية، وتمتلك بنية عسكرية داخل المناطق المحتلة وخارجها، وتلعب دوراً رئيسياً بارزاً في تصلب الموقف السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، فضلاً عن أنها مسؤولة عن العديد من العمليات العسكرية التي طالت تجمعات المستوطنين وقوات الإحتلال، ولا تكف عن لعب دور في تأجيج الهبات الشعبية في الضفة والقطاع عبر رجالها المنتشرين في المدن والمخيمات.■
الرد ... المفاجأة في أحضان العدو
■ رداً على جريمة حي الفاكهاني، وعلى استهداف المقر القيادي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، أمطرت وحدات مدفعية الميدان، وراجمات صواريخ القوات المسلحة الثورية للجبهة، والقوات المشتركة الفلسطينية – اللبنانية المستعمرات الإسرائيلية في شمال فلسطين، من مواقعها في النبطية والقاطع الشرقي للجنوب اللبناني.  كان الرد متوقعاً، لأن تلك المستعمرات كانت بمتناول يد المقاومة والقوات المشتركة، لذلك كانت حكومة العدو قد أخلت معظم سكان هذه المستعمرات ونقلتهم إلى مدينة نهاريا الساحلية، لأنها كانت خارج متناول اليد الطولى لمدفعية المقاومة.
القيادة العسكرية للقوات المسلحة الثورية في جنوب لبنان (صور) درست الموقف واتخذت قراراً جريئاً بضرورة استهداف نهاريا أيا كان السبب.
ركن العمليات وضابط المدفعية أو ضحا أنه لا يمكن استهداف نهاريا إلا إذا تقدمت الراجمات إلى الأمام، وبالتحديد إلى نقطة التماس مع الشريط الحدودي الذي تسيطر عليه قوات الإحتلال وعصابات سعد حداد. والوصول إلى هذه النقطة يتطلب تجاوز حواجز القوات الدولية، الفاصلة بين المناطق الوطنية في الجنوب ومناطق «حداد»، ووظيفتها منع قوات المقاومة من دخول هذه المنطقة.
القيادة العسكرية اتخذت قراراً جريئا، هو أقرب إلى المغامرة آنذاك، كلفت فيه وحدة من المقاتلين، تدعمهم وحدة كاملة من سلاح الرشاشات، «فتح الطريق» أمام راجمة الصواريخ للتقدم إلى المربض المطلوب عند حدود منطقة الشريط الحدودي، وإمطار مدينة نهاريا بأربعين صاروخاً دفعة واحدة، لتكون المفاجأة الكبرى في أحضان حكومة بيغن.
عند حلول المساء، وفي إطار خطة محكمة تقدمت القوات المسلحة الثورية للجبهة الديمقراطية نحو المهمة المكلفة بها، ونجحت في تجاوز حواجز القوات الدولية، دون إراقة نقطة دم واحدة، وعند الساعة صفر، أمطرت راجمة من راجمات القوات المسلحة الثورية مدينة نهارياً بأربعين صاروخاً من عيار 122 ملم، سقط فيها قتلى وجرحى، ولحق بها دمار واسع اعترف به العدو، الذي رد هو الآخر، بحفلة قصف مجنونة، طالت حواجز القوات الدولية، ومناطق مدينة صور ومخيماتها، دون أن يقع في صفوف المقاتلين أو المدنيين أية خسائر. وعادت قافلة الراجمة والقوة الرافعة إلى قواعدها سالمة، وقد أهدت بيغن الهدية التي تليق بسلوكه الإجرامي.
وهكذا تكون الجبهة قد لقنت حكومة العدو درساً من شأنه أن يؤكد له أن «الرأس الصلب» في المقاومة الفلسطينية يملك ذراعاً تمكنه من أن يطال العدو «في عقد داره».
ضريبة الدم الغالية
■ أسفرت جريمة إغارة الطيران الإسرائيلي على حي الفاكهاني واستهداف المقر القيادي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين عن سقوط العشرات من الشهداء، والمئات من الجرحى، من بينهم صف واسع من الأطفال والنساء الآمنين في منازلهم.
الجبهة الديمقراطية نعت 22 شهيداً من شهدائها الذين استهدفتهم الجريمة، وهم في مواقع النضال يؤدون الواجب في إسناد ساحة المعركة وتوفير مستلزماتها، من بينهم رفاق قادة في المواقع المتقدمة، أبرزهم الرفيق عبد الحميد أبو سرور (أبو الغضب) عضو القيادة المركزية للجبهة الديمقراطية في سوريا. ■

أضف تعليق