ضم أو عدم ضم ... سلطة أو لا سلطة
غدًا الأول من تمّوز، هو الموعد المحدد في برنامج الحكومة الإسرائيلية للبدء بالشروع في الضّم. وحتى الآن من غير الواضح ولا المحسوم متى وما الخطوة التي سيقدم عليها بنيامين نتنياهو في ظل المعارضة الداخلية والخارجية للضم، مع أنّ السيناريو المحتمل أن تبدأ الخطة بضم جزئي ورمزي، من خلال ضم كتلة أو كتل استيطانية، على أمل ألّا يؤدي ذلك إلى تدهور أمني، والإضرار بالعلاقات الإسرائيلية مع كل من الأردن ومصر وأوروبا والأمم المتحدة، وإلى تجميد مسيرة التطبيع العربي بعد أن وصلت اللقمة إلى الفم، وحلّ السلطة أو انهيارها، في ظل إعلان القيادة الفلسطينية أنّ ضمّ شبر يساوي ضم الأغوار والمستوطنات كلها، وأنّ هذا سيجعل الاحتلال مسؤولًا عن احتلاله، وعليه أن يتولى حتى جمع النفايات.
ما الذي يدفع السلطة إلى اتخاذ هذا الموقف غير المتوقع، لدرجة أوقفت التنسيق بكل أنواعه، ورفضت استلام أموال المقاصة، مع أنها أموال فلسطينية والمطلوب منها أن تأخذها إلا إذا ربطت سلطات الاحتلال تحويلها بعودة التنسيق الأمني، فهي تراهن على عدم استعداد إسرائيل للمجازفة بخسارة السلطة لما تقدمه من فوائد جمة لها. ومع ذلك، ما الذي يدفع السلطة إلى هذه الخطوة المغامرة التي تجعلها تسير على حافة الهاوية؟ فهي أمام إما «خسارة كل شيء» أو «ربح كل شيء».
تراهن السلطة على إمكانية كبيرة لوقف الضم جرّاء المعارضة العالمية القوية له، وذلك يفسّر تجنّبها العمل على إنجاز الوحدة، وممارسة المقاومة الشعبية التي أعلنت عن تبنيها. واكتفت السلطة بقرار التحلل من الاتفاقيات، والتحرك السياسي والديبلوماسي، والتهديد إذا جرى الضم بالتهديد بحل السلطة والمقاومة الشعبية والانتفاضة، لدرجة التلويح من بعض القادة على عاتقهم الشخصي بالمقاومة المسلحة إذا نُفِّذ الضم.
وربما تريد السلطة أن ترسل رسالة إلى الشعب الفلسطيني بأنها فعلت كل ما في وسعها بعيدًا عن المواجهة الشاملة التي لا تريدها ولا تقدر عليها، حيث لا مفر - خشية الجوع والفقر والفوضى - من قبول التعايش مع الواقع الحالي أو الجديد إذا نفذ ضم جزئي رغم مرارته، على أساس أن ليس بالإمكان أبدع مما كان، ولكن من دون منح الغطاء الفلسطيني للمؤامرة الأميركية الإسرائيلية.
وربما ستمضي السلطة، فعلًا، بالمشوار إلى منتهاه، وستسلم مفاتيح السلطة للاحتلال، وتجعله في مواجهة الشعب مباشرة، و«يصير الذي سيصير، فإذا لن تخرب لن تعمر». وهذا مستبعد كونه يعني مواجهة شاملة، ولا يبدو أن الاستعداد جاريًا في هذا الاتجاه، مع أنه لا ينفع خوض المواجهة بعد اندلاعها، إذ «لا ينفع العليق وقت الغارة».
الموقف الفلسطيني غامض، وهذا مقصود حتى تبقى الخيارات مفتوحة. فهناك من يقول إن رهان السلطة مستند إلى معلومات وتقديرات بأن الضم لن يحدث على الأقل قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية، وإن حدث فسيكون بعدها، فإذا خسر ترامب سينفذ نتنياهو الضم قبل استلام بايدن في العشرين من كانون الثاني 2021، أي الرهان معقود على كسب الوقت حتى بداية تشرين الثاني 2020. وإذا فاز بايدن سيتغير الموقف، ويقوى معسكر معارضة الضم، وإذا فاز ترامب فهذا يعني خراب البصرة.
أما إذا جاء الضم جزئيًا ورمزيًا وشمل ضم كتلة استيطانية أو اثنتين أو ثلاث، فستقول السلطة إن تحركها وتهديداتها أثمرت، وقزّمت الضم، حيث سيأتي أقل بكثير مما يريد اليمين، ومما هو وارد في رؤية ترامب، ويمكن أن تعزي نفسها بأن الكتلة الاستيطانية أو الكتل المضمومة كانت محل تفاوض في السابق حول أن يشملها «تبادل الأراضي»، وأنه لن يترتب عليها تغيير ملموس كبير عن الواقع الحالي، وبالتالي نعود إلى ما كنّا عليه بانتظار استئناف المفاوضات.
ما يشكك في هذا السيناريو أن قيادة السلطة أعلنت بأن ضم شبر من الأرض يساوي ضم 30% من الضفة، وبذلك صعدت إلى رأس الشجرة، ومن الصعب أن تنزل إذا جرى الضم الجزئي من دون أن تخسر مصداقيتها، لأن من يغض النظر عن ضم أي جزء يعطي الضوء الأخضر لضم البقية عاجلًا أم آجلًا، ولكن هذا السيناريو (إن عدّتم عدنا أو إذا جاء الضم محدودًا) يبقى واردًا جدًا.
إذا انتقلنا إلى موقف الفصائل الأخرى التي دعت إلى المواجهة الشاملة، وإلغاء اتفاق أوسلو بكل التزاماته، بما في ذلك سحب الاعتراف بإسرائيل، لدرجة اعتبر الناطق باسم كتائب القسام الضم إعلان حرب يستدعي ردًا يناسبه.
نقطة ضعف المعارضة أنها تهدد بالرد إذا جرى الضم، وتتجاهل خطورة الواقع الحالي، وتحمّل الرئيس وقيادة المنظمة والسلطة وحدهما مسؤولية ما جرى، وعدم قيامها بما يجب، من دون أن تقوم بما عليها وتقدم النموذج والبديل. فحركة حماس التي فازت في الانتخابات السابقة، وتقف رأسًا برأس مع حركة فتح، وتسيطر انفراديًا على قطاع غزة، التي اختارت حتى إشعار آخر معادلة «التهدئة مقابل تخفيف الحصار»؛ غير مقبول منها أن ترهن تحركها بتحرك منافستها وخصمها الداخلي، أو التعامل أنها مسؤولة عن غزة و«فتح» مسؤولة عن الضفة، بل عليها أن تنطلق من الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين مستمرة ولم تتوقف، والتصرف على هذا الأساس.
ولكن، هل رفع سقف الخطاب مؤخرًا بالحديث عن إعلان الحرب إذا جرى الضم يستوي مع تطبيقه، رغم ما يمكن أن يترتب على ذلك من تداعيات وخسائر، وما جاري على الأرض من بحث عن استمرار التهدئة مقابل مجيء الرواتب من قطر عن طريق إسرائيل وتخفيف الحصار وعقد صفقة تبادل جديدة؟
كما مطلوب من «حماس» أن تطرح برنامجًا وطنيًا شاملًا لا ينحصر بقطاع غزة، ويتعامل مع الأمر إذا تجاوبت «فتح» معها أو لم تتجاوب وتقدم النموذج، على جديتها، بجعل السلطة في القطاع تشاركية، توفر الخدمات والأمن وتدافع عن الحقوق والحريات، وتسعى لتوحيد مؤسسات السلطة، وتبادر أو تساعد على قيام تيار وطني ديمقراطي ضاغط لإعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، على أسس وطنية وديمقراطية توافقية، وشراكة حقيقية، من دون التهديد والتلويح أو العمل لإيجاد قيادة أو أطر بديلة أو موازية للمنظمة، لأن المطلوب إعادة بناء مؤسسات المنظمة التي من الصعب جدًا إيجاد بديل لها، فهي ولدت بعد نضال وظروف لم تعد موجودة. هذا مع العلم أن المطلوب من الأعداء استمرار تجميدها إلى حين الحاجة إليها لتوقيع الاتفاق النهائي باسم الشعب الفلسطيني، وربما موتها إذا لم تعد هناك حاجة لاتفاق نهائي في ظل استمرار عدم وجود شريك فلسطيني مستعدّ تصفية القضية.
الملاحظ والمؤلم أن الانقسام ينتج أسوأ ثماره الخبيثة، بحيث أن «فتح»، ومن يدور في فلكها، تطرح برنامجًا تميل الكفة فيه للضفة الغربية. في المقابل، تطرح «حماس»، ومن يدور في فلكها، برنامجًا تميل فيه الكفة لقطاع غزة، في حين أن المطلوب إستراتيجية متعددة الأطراف والأبعاد والأشكال، تتصدى لكل التحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني أينما تواجد وتراعي الظروف الخاصة بكل تجمع.
السلطة إنجاز وطني أم عبء على الشعب
مجرد أن تهدد القيادة الفلسطينية الاحتلال بحل السلطة لتحميله المسؤولية مباشرة عن الشعب واحتلاله، يشكل اعترافًا منها بأن السلطة تخدم الاحتلال. وهذا التهديد طرحه الرئيس الفلسطيني منذ عشر سنوات كخيار في قمة سرت، وعندما هدد بتسليم مفاتيح السلطة في العام 2011، وما زال يكرره إلى حين اتخاذ قرار التحلل في أيار الماضي، الذي شكل بداية مفتوحة على احتمالات عدة. فهناك تناقض بين طرح تسليم المفاتيح وبين القول إن السلطة إنجاز وطني يجب عدم التفريط فيه.
لا يمكن على هذه الأرضية بناء إستراتيجية فاعلة متماسكة ومنسجمة، بل إستراتيجية ردة فعل تأكل نفسها بنفسها، وتجعل احتمال انهيار السلطة وليس حلها احتمالًا قائمًا رغم أن لا أحد من الأطراف الفاعلة يريد حلها، بل تنهار نتيجة لعبة تحدٍ وعناد متبادل بين السلطة التي تتجاذبها آراء عدة، ولكن قرارها بيد شخص واحد، وبين الاحتلال الذي يتجاذبه فريقان: الأول يرى أن السلطة تناور، وأنها ستعود لسيرتها الأولى عندما تجد إسرائيل ماضية في تنفيذ مخططاتها جزئيًا أو كليًا؛ والآخر يرى أن السلطة لا يمكن أن تبلع ضمًا بهذا الحجم وينفذ بهذه الطريقة الاستفزازية، ويميل لاعتماد لما قامت به الحركة الصهيونية العمالية العملية منذ البداية من ضم زاحف من دون إعلانات كبيرة إلا عندما تنضج الظروف.
إن إقامة سلطة تحت الاحتلال بدعة وكل بدعة ضلالة، ولكن لا يعني ذلك أنها شر كلها، خصوصًا أنها جاءت من دون أن تملك مقومات حقيقية، ولا التزام بالحصول على دولة في الحل النهائي، فضلًا عن أنها مقيدة بالتزامات مجحفة سياسية واقتصادية وأمنية وقانونية، كان من الطبيعي مع اتجاه إسرائيل لليمين أكثر وأكثر أن تتآكل وتتحول من سلطة حكم ذاتي واسع يحلم بالتحول إلى دولة إلى حكم ذاتي ضيق لا يملك أي أفق حقيقي، والمطلوب منها الآن أن تتحول إلى سلطة «عميلة» كليًا.
وبعد أن أصبحت السلطة قائمة وبعد ما أقامته، خلال أكثر من 25 عامًا، من بنى واعتماد الاقتصاد عليها كونها المحرك الرئيسي له، وليس فقط مسؤولة عن صرف رواتب الموظفين، لا ينفع القول فلتذهب السلطة إلى الجحيم من دون رؤية العواقب المترتبة على ذهابها، في ظل عدم وجود بديل حقيقي عنها، لأن المنظمة لا يمكن أن تحلّ محلها بصورتها الحالية، فهي هيكل بلا جسم، وموازنتها بند صغير تحصل عليه من موازنة السلطة.
إن البديل عن السلطة إذا حُلت أو انهارت ليس بالضرورة تصعيد المقاومة للاحتلال كما يتصور البعض، بل يمكن أن يكون البديل:
أولًا: فلتان أمني، وفوضى تتبعها تعددية في السلطات ومصادر القرار، يمكن أن يوظفها الاحتلال لفك السلطة، وتركيبها، وإيجاد سلطة جديدة مستغلًا حاجة الناس إليها، أو فبركة سلطات محلية عدة تنفيذًا لخطة الإمارات السبع التي يشير منظّرها الصهيوني مردخاي كيدار أنها ابتدأت بإمارة غزة، وستتبعها إمارة نابلس والخليل ورام الله وغيرها، بحيث تحكم كل مجموعة من العائلات أو تتقاتل فيما بينها على حكم الإمارة، بما يلغي وجود شعب فلسطيني واحد، وحقوق ومصالح وأهداف واحدة، وممثل واحد.
ثانيًا: إعادة النظر في وظائف السلطة والتزاماتها وموازنتها لتصبح سلطة خدمية إدارية مجاورة للمقاومة ذات جهاز شرطي لا أكثر، وتجسد البرنامج الوطني، وتنقل مهمتها السياسية للمنظمة، ومهمتها الأساسية تعزيز صمود المواطن ووجوده على أرض وطنه، ولا تبقى كأحد إفرازات أوسلو. ويمكن أن يكون ذلك في سياق السعي لتجسيد الدولة المعترف بها أمميًا من خلال إنجاز الاستقلال الوطني، هذا مع الأخذ بالحسبان وجود السلطة في قطاع غزة التي ستبقى قائمة إذا حُلت السلطة في الضفة أو انهارت، ويجب أن تكون توحيد ضمن الإستراتيجية الواحدة الموحدة.
ويمكن أن تكون سلطة غزة جزءًا من «الإمارات»؛ أو دويلة يجري توسيعها في غزة لتستوعب الفلسطينيين المهجرين من الضفة، وربما من أراضي 48 والخارج؛ أو جزءًا من السلطة الواحدة الخدمية الإدارية التي تقودها منظمة التحرير بعد إعادة بناء وتوحيد مؤسساتها لتضم مختلف ألوان الطيف، على أسس وطنية وديمقراطية توافقية وشراكة حقيقية.
لا مهرب من التاريخ والجغرافيا وموازين القوى الحاضرة الآن، مع العمل على تغيير جوهري يشمل وظائف السلطة، ضمن تفكير وتخطيط إستراتيجيين يعملان منذ الآن لما يجب أن يكون بعد عام، وعامين، وخمسة، وفي المستقبل البعيد.
قد لا يمكن منع الضم الآن، ولكن يمكن تدفيع إسرائيل ثمنًا باهظًا، ومنعه في المديين المتوسط والبعيد، وإنهاء الاحتلال، وتفكيك الاستيطان؛ إذا وفّرنا المستلزمات الضرورية لذلك■
ما الذي يدفع السلطة إلى اتخاذ هذا الموقف غير المتوقع، لدرجة أوقفت التنسيق بكل أنواعه، ورفضت استلام أموال المقاصة، مع أنها أموال فلسطينية والمطلوب منها أن تأخذها إلا إذا ربطت سلطات الاحتلال تحويلها بعودة التنسيق الأمني، فهي تراهن على عدم استعداد إسرائيل للمجازفة بخسارة السلطة لما تقدمه من فوائد جمة لها. ومع ذلك، ما الذي يدفع السلطة إلى هذه الخطوة المغامرة التي تجعلها تسير على حافة الهاوية؟ فهي أمام إما «خسارة كل شيء» أو «ربح كل شيء».
تراهن السلطة على إمكانية كبيرة لوقف الضم جرّاء المعارضة العالمية القوية له، وذلك يفسّر تجنّبها العمل على إنجاز الوحدة، وممارسة المقاومة الشعبية التي أعلنت عن تبنيها. واكتفت السلطة بقرار التحلل من الاتفاقيات، والتحرك السياسي والديبلوماسي، والتهديد إذا جرى الضم بالتهديد بحل السلطة والمقاومة الشعبية والانتفاضة، لدرجة التلويح من بعض القادة على عاتقهم الشخصي بالمقاومة المسلحة إذا نُفِّذ الضم.
وربما تريد السلطة أن ترسل رسالة إلى الشعب الفلسطيني بأنها فعلت كل ما في وسعها بعيدًا عن المواجهة الشاملة التي لا تريدها ولا تقدر عليها، حيث لا مفر - خشية الجوع والفقر والفوضى - من قبول التعايش مع الواقع الحالي أو الجديد إذا نفذ ضم جزئي رغم مرارته، على أساس أن ليس بالإمكان أبدع مما كان، ولكن من دون منح الغطاء الفلسطيني للمؤامرة الأميركية الإسرائيلية.
وربما ستمضي السلطة، فعلًا، بالمشوار إلى منتهاه، وستسلم مفاتيح السلطة للاحتلال، وتجعله في مواجهة الشعب مباشرة، و«يصير الذي سيصير، فإذا لن تخرب لن تعمر». وهذا مستبعد كونه يعني مواجهة شاملة، ولا يبدو أن الاستعداد جاريًا في هذا الاتجاه، مع أنه لا ينفع خوض المواجهة بعد اندلاعها، إذ «لا ينفع العليق وقت الغارة».
الموقف الفلسطيني غامض، وهذا مقصود حتى تبقى الخيارات مفتوحة. فهناك من يقول إن رهان السلطة مستند إلى معلومات وتقديرات بأن الضم لن يحدث على الأقل قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية، وإن حدث فسيكون بعدها، فإذا خسر ترامب سينفذ نتنياهو الضم قبل استلام بايدن في العشرين من كانون الثاني 2021، أي الرهان معقود على كسب الوقت حتى بداية تشرين الثاني 2020. وإذا فاز بايدن سيتغير الموقف، ويقوى معسكر معارضة الضم، وإذا فاز ترامب فهذا يعني خراب البصرة.
أما إذا جاء الضم جزئيًا ورمزيًا وشمل ضم كتلة استيطانية أو اثنتين أو ثلاث، فستقول السلطة إن تحركها وتهديداتها أثمرت، وقزّمت الضم، حيث سيأتي أقل بكثير مما يريد اليمين، ومما هو وارد في رؤية ترامب، ويمكن أن تعزي نفسها بأن الكتلة الاستيطانية أو الكتل المضمومة كانت محل تفاوض في السابق حول أن يشملها «تبادل الأراضي»، وأنه لن يترتب عليها تغيير ملموس كبير عن الواقع الحالي، وبالتالي نعود إلى ما كنّا عليه بانتظار استئناف المفاوضات.
ما يشكك في هذا السيناريو أن قيادة السلطة أعلنت بأن ضم شبر من الأرض يساوي ضم 30% من الضفة، وبذلك صعدت إلى رأس الشجرة، ومن الصعب أن تنزل إذا جرى الضم الجزئي من دون أن تخسر مصداقيتها، لأن من يغض النظر عن ضم أي جزء يعطي الضوء الأخضر لضم البقية عاجلًا أم آجلًا، ولكن هذا السيناريو (إن عدّتم عدنا أو إذا جاء الضم محدودًا) يبقى واردًا جدًا.
إذا انتقلنا إلى موقف الفصائل الأخرى التي دعت إلى المواجهة الشاملة، وإلغاء اتفاق أوسلو بكل التزاماته، بما في ذلك سحب الاعتراف بإسرائيل، لدرجة اعتبر الناطق باسم كتائب القسام الضم إعلان حرب يستدعي ردًا يناسبه.
نقطة ضعف المعارضة أنها تهدد بالرد إذا جرى الضم، وتتجاهل خطورة الواقع الحالي، وتحمّل الرئيس وقيادة المنظمة والسلطة وحدهما مسؤولية ما جرى، وعدم قيامها بما يجب، من دون أن تقوم بما عليها وتقدم النموذج والبديل. فحركة حماس التي فازت في الانتخابات السابقة، وتقف رأسًا برأس مع حركة فتح، وتسيطر انفراديًا على قطاع غزة، التي اختارت حتى إشعار آخر معادلة «التهدئة مقابل تخفيف الحصار»؛ غير مقبول منها أن ترهن تحركها بتحرك منافستها وخصمها الداخلي، أو التعامل أنها مسؤولة عن غزة و«فتح» مسؤولة عن الضفة، بل عليها أن تنطلق من الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين مستمرة ولم تتوقف، والتصرف على هذا الأساس.
ولكن، هل رفع سقف الخطاب مؤخرًا بالحديث عن إعلان الحرب إذا جرى الضم يستوي مع تطبيقه، رغم ما يمكن أن يترتب على ذلك من تداعيات وخسائر، وما جاري على الأرض من بحث عن استمرار التهدئة مقابل مجيء الرواتب من قطر عن طريق إسرائيل وتخفيف الحصار وعقد صفقة تبادل جديدة؟
كما مطلوب من «حماس» أن تطرح برنامجًا وطنيًا شاملًا لا ينحصر بقطاع غزة، ويتعامل مع الأمر إذا تجاوبت «فتح» معها أو لم تتجاوب وتقدم النموذج، على جديتها، بجعل السلطة في القطاع تشاركية، توفر الخدمات والأمن وتدافع عن الحقوق والحريات، وتسعى لتوحيد مؤسسات السلطة، وتبادر أو تساعد على قيام تيار وطني ديمقراطي ضاغط لإعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، على أسس وطنية وديمقراطية توافقية، وشراكة حقيقية، من دون التهديد والتلويح أو العمل لإيجاد قيادة أو أطر بديلة أو موازية للمنظمة، لأن المطلوب إعادة بناء مؤسسات المنظمة التي من الصعب جدًا إيجاد بديل لها، فهي ولدت بعد نضال وظروف لم تعد موجودة. هذا مع العلم أن المطلوب من الأعداء استمرار تجميدها إلى حين الحاجة إليها لتوقيع الاتفاق النهائي باسم الشعب الفلسطيني، وربما موتها إذا لم تعد هناك حاجة لاتفاق نهائي في ظل استمرار عدم وجود شريك فلسطيني مستعدّ تصفية القضية.
الملاحظ والمؤلم أن الانقسام ينتج أسوأ ثماره الخبيثة، بحيث أن «فتح»، ومن يدور في فلكها، تطرح برنامجًا تميل الكفة فيه للضفة الغربية. في المقابل، تطرح «حماس»، ومن يدور في فلكها، برنامجًا تميل فيه الكفة لقطاع غزة، في حين أن المطلوب إستراتيجية متعددة الأطراف والأبعاد والأشكال، تتصدى لكل التحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني أينما تواجد وتراعي الظروف الخاصة بكل تجمع.
السلطة إنجاز وطني أم عبء على الشعب
مجرد أن تهدد القيادة الفلسطينية الاحتلال بحل السلطة لتحميله المسؤولية مباشرة عن الشعب واحتلاله، يشكل اعترافًا منها بأن السلطة تخدم الاحتلال. وهذا التهديد طرحه الرئيس الفلسطيني منذ عشر سنوات كخيار في قمة سرت، وعندما هدد بتسليم مفاتيح السلطة في العام 2011، وما زال يكرره إلى حين اتخاذ قرار التحلل في أيار الماضي، الذي شكل بداية مفتوحة على احتمالات عدة. فهناك تناقض بين طرح تسليم المفاتيح وبين القول إن السلطة إنجاز وطني يجب عدم التفريط فيه.
لا يمكن على هذه الأرضية بناء إستراتيجية فاعلة متماسكة ومنسجمة، بل إستراتيجية ردة فعل تأكل نفسها بنفسها، وتجعل احتمال انهيار السلطة وليس حلها احتمالًا قائمًا رغم أن لا أحد من الأطراف الفاعلة يريد حلها، بل تنهار نتيجة لعبة تحدٍ وعناد متبادل بين السلطة التي تتجاذبها آراء عدة، ولكن قرارها بيد شخص واحد، وبين الاحتلال الذي يتجاذبه فريقان: الأول يرى أن السلطة تناور، وأنها ستعود لسيرتها الأولى عندما تجد إسرائيل ماضية في تنفيذ مخططاتها جزئيًا أو كليًا؛ والآخر يرى أن السلطة لا يمكن أن تبلع ضمًا بهذا الحجم وينفذ بهذه الطريقة الاستفزازية، ويميل لاعتماد لما قامت به الحركة الصهيونية العمالية العملية منذ البداية من ضم زاحف من دون إعلانات كبيرة إلا عندما تنضج الظروف.
إن إقامة سلطة تحت الاحتلال بدعة وكل بدعة ضلالة، ولكن لا يعني ذلك أنها شر كلها، خصوصًا أنها جاءت من دون أن تملك مقومات حقيقية، ولا التزام بالحصول على دولة في الحل النهائي، فضلًا عن أنها مقيدة بالتزامات مجحفة سياسية واقتصادية وأمنية وقانونية، كان من الطبيعي مع اتجاه إسرائيل لليمين أكثر وأكثر أن تتآكل وتتحول من سلطة حكم ذاتي واسع يحلم بالتحول إلى دولة إلى حكم ذاتي ضيق لا يملك أي أفق حقيقي، والمطلوب منها الآن أن تتحول إلى سلطة «عميلة» كليًا.
وبعد أن أصبحت السلطة قائمة وبعد ما أقامته، خلال أكثر من 25 عامًا، من بنى واعتماد الاقتصاد عليها كونها المحرك الرئيسي له، وليس فقط مسؤولة عن صرف رواتب الموظفين، لا ينفع القول فلتذهب السلطة إلى الجحيم من دون رؤية العواقب المترتبة على ذهابها، في ظل عدم وجود بديل حقيقي عنها، لأن المنظمة لا يمكن أن تحلّ محلها بصورتها الحالية، فهي هيكل بلا جسم، وموازنتها بند صغير تحصل عليه من موازنة السلطة.
إن البديل عن السلطة إذا حُلت أو انهارت ليس بالضرورة تصعيد المقاومة للاحتلال كما يتصور البعض، بل يمكن أن يكون البديل:
أولًا: فلتان أمني، وفوضى تتبعها تعددية في السلطات ومصادر القرار، يمكن أن يوظفها الاحتلال لفك السلطة، وتركيبها، وإيجاد سلطة جديدة مستغلًا حاجة الناس إليها، أو فبركة سلطات محلية عدة تنفيذًا لخطة الإمارات السبع التي يشير منظّرها الصهيوني مردخاي كيدار أنها ابتدأت بإمارة غزة، وستتبعها إمارة نابلس والخليل ورام الله وغيرها، بحيث تحكم كل مجموعة من العائلات أو تتقاتل فيما بينها على حكم الإمارة، بما يلغي وجود شعب فلسطيني واحد، وحقوق ومصالح وأهداف واحدة، وممثل واحد.
ثانيًا: إعادة النظر في وظائف السلطة والتزاماتها وموازنتها لتصبح سلطة خدمية إدارية مجاورة للمقاومة ذات جهاز شرطي لا أكثر، وتجسد البرنامج الوطني، وتنقل مهمتها السياسية للمنظمة، ومهمتها الأساسية تعزيز صمود المواطن ووجوده على أرض وطنه، ولا تبقى كأحد إفرازات أوسلو. ويمكن أن يكون ذلك في سياق السعي لتجسيد الدولة المعترف بها أمميًا من خلال إنجاز الاستقلال الوطني، هذا مع الأخذ بالحسبان وجود السلطة في قطاع غزة التي ستبقى قائمة إذا حُلت السلطة في الضفة أو انهارت، ويجب أن تكون توحيد ضمن الإستراتيجية الواحدة الموحدة.
ويمكن أن تكون سلطة غزة جزءًا من «الإمارات»؛ أو دويلة يجري توسيعها في غزة لتستوعب الفلسطينيين المهجرين من الضفة، وربما من أراضي 48 والخارج؛ أو جزءًا من السلطة الواحدة الخدمية الإدارية التي تقودها منظمة التحرير بعد إعادة بناء وتوحيد مؤسساتها لتضم مختلف ألوان الطيف، على أسس وطنية وديمقراطية توافقية وشراكة حقيقية.
لا مهرب من التاريخ والجغرافيا وموازين القوى الحاضرة الآن، مع العمل على تغيير جوهري يشمل وظائف السلطة، ضمن تفكير وتخطيط إستراتيجيين يعملان منذ الآن لما يجب أن يكون بعد عام، وعامين، وخمسة، وفي المستقبل البعيد.
قد لا يمكن منع الضم الآن، ولكن يمكن تدفيع إسرائيل ثمنًا باهظًا، ومنعه في المديين المتوسط والبعيد، وإنهاء الاحتلال، وتفكيك الاستيطان؛ إذا وفّرنا المستلزمات الضرورية لذلك■
أضف تعليق