إطلالة أخرى على العالم من نوافذ كورونا
النافذة الأولى: الإشتراكية والرأسمالية
■ أثارت نتائج كورونا تساؤلات كبرى عديدة، من بينها على سبيل المثال، هل لنجاح الصين الشعبية في لجم كورونا، وحصر ضحاياه بعدد قليل من السكان (نسبة إلى العدد الكبير للشعب الصيني) من جهة، ولفشل الدول الغربية، كالولايات المتحدة وأوروبا، في لجم الجائحة، من جهة ثانية، علاقة بطبيعة النظام هنا، وهناك. أي الإشتراكية في الصين، والرأسمالية في دول الغرب.
كثيرون ذهبوا إلى التأكيد أن للنظام السياسي دوراً في ذلك، واستندوا في رأيهم، ليس فقط إلى التجربة الناجحة للصين الشعبية، بل وكذلك إلى التجربة الناجحة لكوبا، التي رغم ما تتعرض له من حصار، مدت يد العون، وأرسلت فرقها الطبية إلى إيطاليا، للمشاركة في مجابهة الوباء. ويقول المراقبون إن من أسباب تراجع الوباء في إيطاليا، مساهمة كل من الصين وكوبا في لجمه.
لكن آخرين رفضوا الربط بين النجاح والفشل وبين النظام السياسي الإقتصادي، واعتمدوا في ذلك على تجارب رأسمالية، كألمانيا مثلاً، التي نجحت، مقارنة مع فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وغيرها، في خوض تجربة قللت كثيراً من ضحايا الوباء.
طبعاً، النقاش الدائر، هو واحد من النقاشات الدائرة في العالم على هامش الوباء الذي وحّد الكون، وسجن الجميع في المنازل.
لكن خبراء السياسة الموضوعيين (على فرض وجودهم دون إنحياز إيديولوجي) أعاد النجاح والفشل، هنا، أو هناك، إلى نجاح الإدارة وفشلها.
حيث توفرت إدارة ناجحة، وصارمة، وذات رؤية، نجحت البلاد في لجم الوباء، وحيث افتقدت البلاد إلى مثل هكذا إدارة، وقعت الكارثة.
غير أن هذا الإستنتاج نفسه، يقودنا مرة أخرى إلى السؤال الأول: لماذا توفرت في الصين الشعبية وفي كوبا، إدارة ناجحة وصارمة. وهل الإدارة الصارمة والناجحة تستطيع، في مثل هذه الظروف أن تحقق أهدافها، لولا وجود نظام صحي متقدم. فحتى في ألمانيا، على افتراض أنها اعتمدت على إدارة ناجحة وصارمة فإن نسبة الوفيات، إلى عدد السكان، تبقى أعلى بكثير مما هي عليه في الصين الشعبية.
هنا لا يمكن لأحد أن يجادل في صحة الإستنتاج القائل أن توفر نظام صحي كان سبباً رئيساً من أسباب النجاح في لجم الوباء.
ولا يمكن لأحد أن يجادل ليفصل بين وجود نظام صحي ناجح، وبين طبيعة النظام السياسي الإقتصادي.
فالإشتراكية تعتبر بناء نعيم الإنسان على الأرض هدفها الأكبر، وتضع خططها في هذا الإتجاه. أما الرأسمالية فهدفها على الدوام استغلال طاقة المجتمع الإقتصادية والفكرية والثقافية والإعلامية، في خدمة حفنة من كبار الرأسماليين، يقيسون مدى الفشل ومدى النجاح، بمدى تراكم ثرواتهم.
أما بشأن حياة البشر، ومستوى معيشتهم، فإن كبار الرأسماليين، مدعومين بكبار رجال الدين، لا يتوقفون عن الوعد بأن الجنة في «الحياة الآخرة هي من نصيب الفقراء»■
النافذة الثانية: الدول الكبرى والتخطيط الإستراتيجي والجيوش
■ لفت نظر المراقبين أن أفيف كوخافي، رئيس هيئة أركان جيش الإحتلال الإسرائيلي، طلب إلى حكومة نتنياهو أن تولي الجيش أمر مكافحة كورونا في البلاد. ما أوحى، من ضمن قضايا كثيرة، أن الجيش الإسرائيلي يمتلك خطة استراتيجية جاهزة لإنجاز هذا العمل غير المسبوق عالمياً.
مثل هذا الأمر، فتح الباب لنقاش من نوع آخر وهو، هل خططت الدول (خاصة الدول الكبرى) لمواجهة أوضاع صعبة كالتي يعيشها الكون في ظل الحرب المفتوحة مع كورونا؟
نحن نعلم أن الجيش الأميركي، على سبيل المثال، يملك خططاً عسكرية جاهزة، لمواجهة أي احتمال، وأنه نشر قواعده في أرجاء العالم، بحيث يستطيع أن ينقل المعركة سريعاً إلى أية منطقة يتطلبها الأمر ذلك. وهذا ما شاهدناه على سبيل المثال في حرب الخليج الثانية (غزو العراق وإسقاط النظام وتدمير البلد) حين انتقل الجيش الأميركي بكل قواه إلى العربية السعودية وحيث تبين أن قواعده هناك كانت جاهزة لاستقباله في كل لحظة. من هنا يوصف الجيش الأميركي بسرعة الحركة لأنه يمتلك الوسائط، والقواعد العسكرية، والخطط الجاهزة. وهذا، بطبيعة الحال، ما يبرر وجوده كجيش لدولة إمبريالية تتطلع دوماً إلى كونها زعيمة العالم كله، تنظر إلى أي نهوض، هنا أو هناك، خطراً عليها.
هل كانت الولايات المتحدة تملك خططاً عسكرية لكل الإحتمالات ولا تملك خططاً لمواجهة كورونا. ألا يشبه كورونا الحرب النووية، حيث يصبح التجوال عرضة للأشعة النووية، وحيث تتعطل الحياة الإقتصادية من صناعة، وزراعة، وتجارة، وتتعطل المواصلات. هل معنى ذلك أن الحديث عن الحرب النووية كان تهويلاً، وأن لا دولة عظمى، لا الولايات المتحدة، ولا روسيا، ولا دولة أوروبية، كانت تمتلك خطة لمواجهة ظروفاً كالتي تواجهها الآن.
وهل كانت الصين الشعبية هي وحدها التي تملك خطة، بحيث تبقى «الشعب» في البيت وتوفر له، في ظل شروط صعبة، وسائل العيش، وكأن الأوضاع بقيت على طبيعتها.
في ظل الجيوش الكبرى، ذات القوة التدميرية الشاملة، يعيش الكون في خطر دائم، خاصة في ظل قيادات هوجاء كدونالد ترامب، وبنيامين نتنياهو وغيرهما.
ومع ذلك تبقى هذه الجيوش عاجزة عن حماية الأرض حين تتعرض لخطر الطبيعة. البحرية الأميركية أصيبت في الصميم حين اضطرت إلى تحييد أكبر حاملة طائرات لديها، بعد أن اجتاح كورونا صفوف أطقمها البالغ عددهم أربعة آلاف بحار. والحاملة الفرنسية ديغول تسرب إليها الوباء، ومرشحة لأن تعلق وظائفها وواجباتها.
فهل يخرج العالم من هذه التجربة بالدرس الضروري، ويدرك أن أفضل الجيوش الواجب تشكيلها هي جيوش العلم والعمل، والفكر والثقافة.
مع إدراكنا التام أنه ما دام العالم معرضاً لجشع الإمبريالية وحلفائها، ستظل الشعوب الفقيرة مضطرة، لبناء جيوشها لتدافع عن كرامتها الوطنية.■
النافذة الثالثة: هل مازال الاتحاد الأوروبي قابلاً للحياة
يجمع علماء السياسة والإقتصاد والإجتماع، أن الكون، وتحت وطأة كورونا، سوف يشهد (بل بدأ يشهد) تغيرات نوعية، ستطال نظامه العالمي، والإقتصادي، والعلاقات بين دوله، وحتى في العلاقات الأسرية، بعد تجربة الحجر المنزلي، وإلتزام الرجال والنساء (العاملات منهن والموظفات وصاحبات الكفاءات) المنزل، بكل ما أحدثه ذلك من جديد في العلاقات الأسرية، سلباً، أو إيجاباً.
من بين الملفات الكبرى، التي ستشهد تغيرات، هو ملف الإتحاد الأوروبي، الذي اجتاحت دوله جائحة كورونا بطريقة مجنونة وهمجية، طالت عشرات الآلاف من سكانه، وقضت على عشرات الآلاف من المصابين، بحيث تجاوزت أرقام الوفيات في الصين بأشواط كبرى.
دول الإتحاد الأوروبي، في مواجهة الوباء، وجدت نفسها في المعركة منفردة، لا حلفاء ولا شركاء لها. بل انغلقت دول الاتحاد الأوروبي، كل بلد على نفسه، وانهمك في معالجة مشاكله وكوارثه، دون الإلتفات إلى البلد المجاور. بل أبعد من ذلك نظرت دول الإتحاد الأوروبي، كل بلد على إنفراد، إلى البلد المجاور على أنه مصدر الخطر، فأغلق حدوده في وجهه. إيطاليا منفردة، وكذلك إسبانيا، والأمر نفسه فرنسا، وسويسرا، وغيرها. وتنازعت الدول الأوروبية تجهيزات وأدوات المجابهة، فدارت فيما بينها حرب الكمامات، والقفازات الطبية، وأجهزة التنفس وغيرها من الضرورات الملزمة للمواجهة.
وتبين بالملموس ان الاتحاد الأوروبي، شكل صيغة سياسية إقتصادية، في خدمة كبار الرأسماليين، وظيفته حماية الرأسمال الأوروبي، في تحالفات طبقية، في مواجهة الرأسمال الأميركي وغيره، وحماية الشركات الأوروبية في صراع العمالقة الكبار الذي يدور لنهب خيرات الأرض وثرواتها. وهو ألحق الضر بالعمال والمزارعين والفنيين وأصحاب الدخل المحدود، وزاد من أرباح الشركات الكبرى، حين أعفيت من الضرائب، ومنحت حرية الحركة، عابرة لحدود القارة، وبحيث تصبح القارة الأوروبية، ملعبها الواسع.
الآن، في ظل جائحة كورونا، لم تنجح دول الإتحاد الأوروبي في حماية سكانها، وتؤكد المعلومات والتقارير، أن إهتمام حكوماتها انصب على كيفية حماية شركاتها من الكارثة، فتدخلت، كما حصل في ألمانيا، لضخ ملايين الوحدات النقدية (يورو) في خدمة شركات كادت أن تعلن إفلاسها، فيما أنياب كورونا تنهش أجساد الآلاف، من العمال والمهاجرين، وكبار السن والفقراء، الذين لم تتوفر لهم سبل الحماية.
وبذلك وجدت إيطاليا أنها أقرب إلى كوبا، وإلى الصين، منها إلى فرنسا، أو سويسرا. إذ مدت الصين، كما مدت كوبا، يد العون إلى إيطاليا، في مواجهة الجائحة القاتلة، فيما يعلن الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون عن مشروع لإلغاء نظام شنغن، وهو النظام الذي يتيح حامل سمة دخول إلى بلد أوروبي، عضو في الإتحاد، دخول باقي البلاد، وليس خافياً إن هذا المشروع إنما يشكل خطوة إلى الوراء، في العلاقات البينية للدول الأوروبية.■
النافذة الرابعة: كورونا والتمييز العنصري
■ لا تتوقف التقارير عن الكشف عن مظاهر التمييز العنصري، بأشكاله المختلفة، في مجابهة كورونا.
أحد المراقبين تساءل على سبيل المثال، لماذا تصيب الكورونا السود والملونين في الولايات المتحدة أكثر من البيض، في إشارة واضحة إلى أن أغلبية المصابين هم من غير البيض. أي من الفئات المهمشة في المجتمع الأميركي، التي لا تتوفر لها الضمانات والخدمات الطبية، والإجتماعية، والإقتصادية، التي تمكنها من مقاومة الوباء، وإلتزام الحجر المنزلي. كثيرون لا يستطيعون إلتزام الحجر المنزلي، دون أن تتوفر لهم بدائل لمصادر عيشهم. وفي ظل افتقارهم إلى هذه البدائل، يضطرون إلى العمل في الخارج، معرضين أنفسهم للوباء، خاصة وأنهم يعملون مع شرائح إجتماعية تعاني من ضعف التغذية وسوء المسكن والرعاية الصحية، أي تعاني من ضعف المناعة في مقاومة كورونا.
في السويد مثلاً، ترفض الحكومة توفير الرعاية المطلوبة للمهاجريين «غير الشرعيين» أي المهاجريين الذين لم ينالوا بعد «بركة» اعتبارهم مهاجرين رسميين تشملهم رعاية الحكومة وخدماتها. هم أعداد غير مدرجة على سجل السكان. إذا هم فتك بهم الوباء، لن يكونوا في عداد المسجلين ضحايا. هم غير معترف بوجودهم على الأرض. تماماً كالمتطوعين في الجيش الأميركي أثناء غزو العراق، من غير الأميركيين، مقابل الفوز بالجنسية. إن هم قتلوا في المعارك دفنوا في العراق، ولا يعادون إلى عائلاتهم، ولا يدرجون في سجلات قتلى الجيش الأميركي، لأنهم ليسوا مواطنين أميركيين، وإن كانوا قد قاتلوا تحت العلم الأميركي.
ومن مظاهر التمييز العنصري في السويد أيضاً (نعم في السويد الجنة الموعودة، والتي هي ليست بجنة إطلاقاً) لا تقدم الحكومة إجراءاتها الحمائية للعجائز المتقاعدين. رغم أنها تعرف أن هؤلاء معرضون لخطر الوباء وللموت، أكثر من سواهم في الفئات العمرية الأخرى.
أحد المصادر أكد نوايا الحكومة في السويد الخلاص من هذه الشريحة من السكان، واسعة العدد، المحالة إلى التقاعد، والتي تكبد الحكومة خسائر مالية كبرى. في ظل توازنات سكانية بالغة الخطورة، يزداد فيها عدد المتقاعدين كبار السن، أي تزداد فيها أعداد الخدمة المطلوبة من الحكومة. كورونا، كما وصف أحد المراقبين، فرصة لحكومة السويد للخلاص من كبار السن، ومن أعبائهم وتكاليفهم المالية. السويد، التي تتحدث عن «اشتراكية ديمقراطية»، تحكمها، هي الأخرى، عقلية الفاشية الرأسمالية التي لا تنظر إلى الأفراد إلا باعتبارهم مجرد رقم في حسابات أرباح وخسائر كبار الأغنياء، وليسوا قيمة إنسانية يفترض، ويتوجب حمايتها ورعايتها.
والأمر نفسه تكرر في هولندا، حيث تبلغ نسبة كبار السن حوالي40% من السكان، يشكلون عبئاً إقتصادياً ومالياً ضخماً لما تقدمه البلاد من خدمات مجانية لهم. ثمة إهمال فاقع لهؤلاء، في ظل تأكيدات أن من شأن هذا الإهمال أن يعرض هذه الشريحة (أو الفئة) من السكان لخطر الموت بالوباء.
دون أن نتجاهل، في الوقت نفسه ما لجأت إليه الحكومة الإيطالية، حين أعطت الأولوية في الخدمات الطبية للمصابين بالكورونا، للشباب، وفضلتهم على كبار السن. فكبار السن، وإن نجوا، فلن يعيشوا سوى لسنوات قليلة قادمة، وعلى نفقة الحكومة، فلا بأس إذن من الخلاص منهم، ولا بد من رعاية الشباب، الذين يشكلون جيش العمال والموظفين والخبراء العاملين في خدمة كبرى الشركات الإيطالية.
عنصرية وفاشية، تعيد إلى الأذهان نظرية مالتوس، حول «المليار الذهبي»، ما دفع كثيرين للتساؤل عن حقيقة مصدر كورونا، هل هو وباء أم مؤامرة دبرتها الرأسمالية لشعوب الأرض، في سبيل تجاوز أزماتها الإقتصادية، من خلال تدمير الطاقة البشرية، الفائضة عن الحاجة، حاجة الرأسماليين الكبار بالطبع.■
■ أثارت نتائج كورونا تساؤلات كبرى عديدة، من بينها على سبيل المثال، هل لنجاح الصين الشعبية في لجم كورونا، وحصر ضحاياه بعدد قليل من السكان (نسبة إلى العدد الكبير للشعب الصيني) من جهة، ولفشل الدول الغربية، كالولايات المتحدة وأوروبا، في لجم الجائحة، من جهة ثانية، علاقة بطبيعة النظام هنا، وهناك. أي الإشتراكية في الصين، والرأسمالية في دول الغرب.
كثيرون ذهبوا إلى التأكيد أن للنظام السياسي دوراً في ذلك، واستندوا في رأيهم، ليس فقط إلى التجربة الناجحة للصين الشعبية، بل وكذلك إلى التجربة الناجحة لكوبا، التي رغم ما تتعرض له من حصار، مدت يد العون، وأرسلت فرقها الطبية إلى إيطاليا، للمشاركة في مجابهة الوباء. ويقول المراقبون إن من أسباب تراجع الوباء في إيطاليا، مساهمة كل من الصين وكوبا في لجمه.
لكن آخرين رفضوا الربط بين النجاح والفشل وبين النظام السياسي الإقتصادي، واعتمدوا في ذلك على تجارب رأسمالية، كألمانيا مثلاً، التي نجحت، مقارنة مع فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وغيرها، في خوض تجربة قللت كثيراً من ضحايا الوباء.
طبعاً، النقاش الدائر، هو واحد من النقاشات الدائرة في العالم على هامش الوباء الذي وحّد الكون، وسجن الجميع في المنازل.
لكن خبراء السياسة الموضوعيين (على فرض وجودهم دون إنحياز إيديولوجي) أعاد النجاح والفشل، هنا، أو هناك، إلى نجاح الإدارة وفشلها.
حيث توفرت إدارة ناجحة، وصارمة، وذات رؤية، نجحت البلاد في لجم الوباء، وحيث افتقدت البلاد إلى مثل هكذا إدارة، وقعت الكارثة.
غير أن هذا الإستنتاج نفسه، يقودنا مرة أخرى إلى السؤال الأول: لماذا توفرت في الصين الشعبية وفي كوبا، إدارة ناجحة وصارمة. وهل الإدارة الصارمة والناجحة تستطيع، في مثل هذه الظروف أن تحقق أهدافها، لولا وجود نظام صحي متقدم. فحتى في ألمانيا، على افتراض أنها اعتمدت على إدارة ناجحة وصارمة فإن نسبة الوفيات، إلى عدد السكان، تبقى أعلى بكثير مما هي عليه في الصين الشعبية.
هنا لا يمكن لأحد أن يجادل في صحة الإستنتاج القائل أن توفر نظام صحي كان سبباً رئيساً من أسباب النجاح في لجم الوباء.
ولا يمكن لأحد أن يجادل ليفصل بين وجود نظام صحي ناجح، وبين طبيعة النظام السياسي الإقتصادي.
فالإشتراكية تعتبر بناء نعيم الإنسان على الأرض هدفها الأكبر، وتضع خططها في هذا الإتجاه. أما الرأسمالية فهدفها على الدوام استغلال طاقة المجتمع الإقتصادية والفكرية والثقافية والإعلامية، في خدمة حفنة من كبار الرأسماليين، يقيسون مدى الفشل ومدى النجاح، بمدى تراكم ثرواتهم.
أما بشأن حياة البشر، ومستوى معيشتهم، فإن كبار الرأسماليين، مدعومين بكبار رجال الدين، لا يتوقفون عن الوعد بأن الجنة في «الحياة الآخرة هي من نصيب الفقراء»■
النافذة الثانية: الدول الكبرى والتخطيط الإستراتيجي والجيوش
■ لفت نظر المراقبين أن أفيف كوخافي، رئيس هيئة أركان جيش الإحتلال الإسرائيلي، طلب إلى حكومة نتنياهو أن تولي الجيش أمر مكافحة كورونا في البلاد. ما أوحى، من ضمن قضايا كثيرة، أن الجيش الإسرائيلي يمتلك خطة استراتيجية جاهزة لإنجاز هذا العمل غير المسبوق عالمياً.
مثل هذا الأمر، فتح الباب لنقاش من نوع آخر وهو، هل خططت الدول (خاصة الدول الكبرى) لمواجهة أوضاع صعبة كالتي يعيشها الكون في ظل الحرب المفتوحة مع كورونا؟
نحن نعلم أن الجيش الأميركي، على سبيل المثال، يملك خططاً عسكرية جاهزة، لمواجهة أي احتمال، وأنه نشر قواعده في أرجاء العالم، بحيث يستطيع أن ينقل المعركة سريعاً إلى أية منطقة يتطلبها الأمر ذلك. وهذا ما شاهدناه على سبيل المثال في حرب الخليج الثانية (غزو العراق وإسقاط النظام وتدمير البلد) حين انتقل الجيش الأميركي بكل قواه إلى العربية السعودية وحيث تبين أن قواعده هناك كانت جاهزة لاستقباله في كل لحظة. من هنا يوصف الجيش الأميركي بسرعة الحركة لأنه يمتلك الوسائط، والقواعد العسكرية، والخطط الجاهزة. وهذا، بطبيعة الحال، ما يبرر وجوده كجيش لدولة إمبريالية تتطلع دوماً إلى كونها زعيمة العالم كله، تنظر إلى أي نهوض، هنا أو هناك، خطراً عليها.
هل كانت الولايات المتحدة تملك خططاً عسكرية لكل الإحتمالات ولا تملك خططاً لمواجهة كورونا. ألا يشبه كورونا الحرب النووية، حيث يصبح التجوال عرضة للأشعة النووية، وحيث تتعطل الحياة الإقتصادية من صناعة، وزراعة، وتجارة، وتتعطل المواصلات. هل معنى ذلك أن الحديث عن الحرب النووية كان تهويلاً، وأن لا دولة عظمى، لا الولايات المتحدة، ولا روسيا، ولا دولة أوروبية، كانت تمتلك خطة لمواجهة ظروفاً كالتي تواجهها الآن.
وهل كانت الصين الشعبية هي وحدها التي تملك خطة، بحيث تبقى «الشعب» في البيت وتوفر له، في ظل شروط صعبة، وسائل العيش، وكأن الأوضاع بقيت على طبيعتها.
في ظل الجيوش الكبرى، ذات القوة التدميرية الشاملة، يعيش الكون في خطر دائم، خاصة في ظل قيادات هوجاء كدونالد ترامب، وبنيامين نتنياهو وغيرهما.
ومع ذلك تبقى هذه الجيوش عاجزة عن حماية الأرض حين تتعرض لخطر الطبيعة. البحرية الأميركية أصيبت في الصميم حين اضطرت إلى تحييد أكبر حاملة طائرات لديها، بعد أن اجتاح كورونا صفوف أطقمها البالغ عددهم أربعة آلاف بحار. والحاملة الفرنسية ديغول تسرب إليها الوباء، ومرشحة لأن تعلق وظائفها وواجباتها.
فهل يخرج العالم من هذه التجربة بالدرس الضروري، ويدرك أن أفضل الجيوش الواجب تشكيلها هي جيوش العلم والعمل، والفكر والثقافة.
مع إدراكنا التام أنه ما دام العالم معرضاً لجشع الإمبريالية وحلفائها، ستظل الشعوب الفقيرة مضطرة، لبناء جيوشها لتدافع عن كرامتها الوطنية.■
النافذة الثالثة: هل مازال الاتحاد الأوروبي قابلاً للحياة
يجمع علماء السياسة والإقتصاد والإجتماع، أن الكون، وتحت وطأة كورونا، سوف يشهد (بل بدأ يشهد) تغيرات نوعية، ستطال نظامه العالمي، والإقتصادي، والعلاقات بين دوله، وحتى في العلاقات الأسرية، بعد تجربة الحجر المنزلي، وإلتزام الرجال والنساء (العاملات منهن والموظفات وصاحبات الكفاءات) المنزل، بكل ما أحدثه ذلك من جديد في العلاقات الأسرية، سلباً، أو إيجاباً.
من بين الملفات الكبرى، التي ستشهد تغيرات، هو ملف الإتحاد الأوروبي، الذي اجتاحت دوله جائحة كورونا بطريقة مجنونة وهمجية، طالت عشرات الآلاف من سكانه، وقضت على عشرات الآلاف من المصابين، بحيث تجاوزت أرقام الوفيات في الصين بأشواط كبرى.
دول الإتحاد الأوروبي، في مواجهة الوباء، وجدت نفسها في المعركة منفردة، لا حلفاء ولا شركاء لها. بل انغلقت دول الاتحاد الأوروبي، كل بلد على نفسه، وانهمك في معالجة مشاكله وكوارثه، دون الإلتفات إلى البلد المجاور. بل أبعد من ذلك نظرت دول الإتحاد الأوروبي، كل بلد على إنفراد، إلى البلد المجاور على أنه مصدر الخطر، فأغلق حدوده في وجهه. إيطاليا منفردة، وكذلك إسبانيا، والأمر نفسه فرنسا، وسويسرا، وغيرها. وتنازعت الدول الأوروبية تجهيزات وأدوات المجابهة، فدارت فيما بينها حرب الكمامات، والقفازات الطبية، وأجهزة التنفس وغيرها من الضرورات الملزمة للمواجهة.
وتبين بالملموس ان الاتحاد الأوروبي، شكل صيغة سياسية إقتصادية، في خدمة كبار الرأسماليين، وظيفته حماية الرأسمال الأوروبي، في تحالفات طبقية، في مواجهة الرأسمال الأميركي وغيره، وحماية الشركات الأوروبية في صراع العمالقة الكبار الذي يدور لنهب خيرات الأرض وثرواتها. وهو ألحق الضر بالعمال والمزارعين والفنيين وأصحاب الدخل المحدود، وزاد من أرباح الشركات الكبرى، حين أعفيت من الضرائب، ومنحت حرية الحركة، عابرة لحدود القارة، وبحيث تصبح القارة الأوروبية، ملعبها الواسع.
الآن، في ظل جائحة كورونا، لم تنجح دول الإتحاد الأوروبي في حماية سكانها، وتؤكد المعلومات والتقارير، أن إهتمام حكوماتها انصب على كيفية حماية شركاتها من الكارثة، فتدخلت، كما حصل في ألمانيا، لضخ ملايين الوحدات النقدية (يورو) في خدمة شركات كادت أن تعلن إفلاسها، فيما أنياب كورونا تنهش أجساد الآلاف، من العمال والمهاجرين، وكبار السن والفقراء، الذين لم تتوفر لهم سبل الحماية.
وبذلك وجدت إيطاليا أنها أقرب إلى كوبا، وإلى الصين، منها إلى فرنسا، أو سويسرا. إذ مدت الصين، كما مدت كوبا، يد العون إلى إيطاليا، في مواجهة الجائحة القاتلة، فيما يعلن الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون عن مشروع لإلغاء نظام شنغن، وهو النظام الذي يتيح حامل سمة دخول إلى بلد أوروبي، عضو في الإتحاد، دخول باقي البلاد، وليس خافياً إن هذا المشروع إنما يشكل خطوة إلى الوراء، في العلاقات البينية للدول الأوروبية.■
النافذة الرابعة: كورونا والتمييز العنصري
■ لا تتوقف التقارير عن الكشف عن مظاهر التمييز العنصري، بأشكاله المختلفة، في مجابهة كورونا.
أحد المراقبين تساءل على سبيل المثال، لماذا تصيب الكورونا السود والملونين في الولايات المتحدة أكثر من البيض، في إشارة واضحة إلى أن أغلبية المصابين هم من غير البيض. أي من الفئات المهمشة في المجتمع الأميركي، التي لا تتوفر لها الضمانات والخدمات الطبية، والإجتماعية، والإقتصادية، التي تمكنها من مقاومة الوباء، وإلتزام الحجر المنزلي. كثيرون لا يستطيعون إلتزام الحجر المنزلي، دون أن تتوفر لهم بدائل لمصادر عيشهم. وفي ظل افتقارهم إلى هذه البدائل، يضطرون إلى العمل في الخارج، معرضين أنفسهم للوباء، خاصة وأنهم يعملون مع شرائح إجتماعية تعاني من ضعف التغذية وسوء المسكن والرعاية الصحية، أي تعاني من ضعف المناعة في مقاومة كورونا.
في السويد مثلاً، ترفض الحكومة توفير الرعاية المطلوبة للمهاجريين «غير الشرعيين» أي المهاجريين الذين لم ينالوا بعد «بركة» اعتبارهم مهاجرين رسميين تشملهم رعاية الحكومة وخدماتها. هم أعداد غير مدرجة على سجل السكان. إذا هم فتك بهم الوباء، لن يكونوا في عداد المسجلين ضحايا. هم غير معترف بوجودهم على الأرض. تماماً كالمتطوعين في الجيش الأميركي أثناء غزو العراق، من غير الأميركيين، مقابل الفوز بالجنسية. إن هم قتلوا في المعارك دفنوا في العراق، ولا يعادون إلى عائلاتهم، ولا يدرجون في سجلات قتلى الجيش الأميركي، لأنهم ليسوا مواطنين أميركيين، وإن كانوا قد قاتلوا تحت العلم الأميركي.
ومن مظاهر التمييز العنصري في السويد أيضاً (نعم في السويد الجنة الموعودة، والتي هي ليست بجنة إطلاقاً) لا تقدم الحكومة إجراءاتها الحمائية للعجائز المتقاعدين. رغم أنها تعرف أن هؤلاء معرضون لخطر الوباء وللموت، أكثر من سواهم في الفئات العمرية الأخرى.
أحد المصادر أكد نوايا الحكومة في السويد الخلاص من هذه الشريحة من السكان، واسعة العدد، المحالة إلى التقاعد، والتي تكبد الحكومة خسائر مالية كبرى. في ظل توازنات سكانية بالغة الخطورة، يزداد فيها عدد المتقاعدين كبار السن، أي تزداد فيها أعداد الخدمة المطلوبة من الحكومة. كورونا، كما وصف أحد المراقبين، فرصة لحكومة السويد للخلاص من كبار السن، ومن أعبائهم وتكاليفهم المالية. السويد، التي تتحدث عن «اشتراكية ديمقراطية»، تحكمها، هي الأخرى، عقلية الفاشية الرأسمالية التي لا تنظر إلى الأفراد إلا باعتبارهم مجرد رقم في حسابات أرباح وخسائر كبار الأغنياء، وليسوا قيمة إنسانية يفترض، ويتوجب حمايتها ورعايتها.
والأمر نفسه تكرر في هولندا، حيث تبلغ نسبة كبار السن حوالي40% من السكان، يشكلون عبئاً إقتصادياً ومالياً ضخماً لما تقدمه البلاد من خدمات مجانية لهم. ثمة إهمال فاقع لهؤلاء، في ظل تأكيدات أن من شأن هذا الإهمال أن يعرض هذه الشريحة (أو الفئة) من السكان لخطر الموت بالوباء.
دون أن نتجاهل، في الوقت نفسه ما لجأت إليه الحكومة الإيطالية، حين أعطت الأولوية في الخدمات الطبية للمصابين بالكورونا، للشباب، وفضلتهم على كبار السن. فكبار السن، وإن نجوا، فلن يعيشوا سوى لسنوات قليلة قادمة، وعلى نفقة الحكومة، فلا بأس إذن من الخلاص منهم، ولا بد من رعاية الشباب، الذين يشكلون جيش العمال والموظفين والخبراء العاملين في خدمة كبرى الشركات الإيطالية.
عنصرية وفاشية، تعيد إلى الأذهان نظرية مالتوس، حول «المليار الذهبي»، ما دفع كثيرين للتساؤل عن حقيقة مصدر كورونا، هل هو وباء أم مؤامرة دبرتها الرأسمالية لشعوب الأرض، في سبيل تجاوز أزماتها الإقتصادية، من خلال تدمير الطاقة البشرية، الفائضة عن الحاجة، حاجة الرأسماليين الكبار بالطبع.■
أضف تعليق