المخيمات الفلسطينية في لبنان في زمن «كورونا»
لم يسبق أن عاشت المخيمات الفلسطينية في لبنان أوضاعاً صعبة ومقلقة كالتي تعيشها اليوم. هي مرت عبر تاريخها بمراحل ومنعطفات مصيرية: من الحرب الاهلية اللبنانية التي استمرت نحو (15) عاما وحصدت عشرات آلاف الضحايا فضلا عن التدمير الشامل، وصولا الى عدوان تموز عام 2006، مرورا بالاجتياح الاسرائيلي الشامل للبنان عام 1982 بجميع تفاصيله ويومياته وما سببه من انهيار كامل لبنى الدولة وجميع مرافقها ومؤسساتها، اضافة الى عشرات الحروب التي شنت عليها بين عام وآخر وكانت كل واحدة منها كفيلة بأن تدمر وتقضي على مجتمعات بأكملها..
لكن رغم الدمار الواسع الذي اصابها وتفكك نسيجها الاجتماعي نتيجة العدد الكبير من الشهداء والجرحى والمفقودين وآلاف المهجرين، والشعور العام بانسداد آفاق المستقبل، في ظل غياب المرجعيات الوطنية والخدماتية التي كانت ترعى شؤون عشرات الآلاف من اللاجئين. فقد بقيت المخيمات صامدة تصارع من اجل حقها بالحياة، وظلت مناطق وتجمعات موصوفة لبيئة وطنية تعج بالحياة.. ولعل هذا واحد من اسباب استهدافها بشكل مباشر بالمشروع الامريكي الاسرائيلي..
حين تعرضت المخيمات لسلسلة واسعة من الحروب، هبت عشرات المؤسسات والهيئات الانسانية لتقديم خدماتها، وأطلقت وكالة الغوث العديد من نداءات الطوارئ للاستجابة للاحتياجات المتزايدة، ولعبت الفصائل الفلسطينية ومؤسساتها ادوارا مهمة ساهمت، بشكل نسبي، في التخفيف من هول الكارثة الانسانية التي ظلت تجرجر نفسها سنة بعد أخرى حتى بداية المفاوضات العربية والفلسطينية الإسرائيلية والتي كان من نتائجها المباشرة:
1) طرح وكالة الغوث لعشرات السيناريوهات والاستراتيجيات التي بنت معطياتها على ارضية سلام مفترض وقادم، مع كل ما رافق ذلك من اعادة الدول المانحة لأولويات التمويل «المسيس» الذي كان يسير على وتر النتائج المحققة في عملية التسوية، ما أدى الى ضغوط متواصلة على موازنة وكالة الغوث التي ظلت تعاني من عجز مالي ما زال متواصلاً حتى اليوم، مع كل الآثار السلبية التي كان القطاعان الصحي والتربوي أهم ضحاياها، بحيث لم يجد اللاجئ أمام أي عارض صحي يتعرض له من ينقذه من خطر الموت المحتم الذي كان مصير العشرات.
2) تراجع تقديمات المنظمات غير الحكومية (NGOs) التي، وبتوجيهات سياسة واضحة، ركزت اهتماماتها على مواكبة عملية التسوية وما تحققه من نتائج على الارض، حيث كان من نتيجته تراجع اهتماماتها بأوضاع اللاجئين في الخارج الذين باتوا يرزحون تحت أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة، ووجهت عملها باتجاه الضفة الغربية وقطاع غزة لأسباب سياسية واضحة.
3) اتباع الدولة اللبنانية لسياسة تمييزية ضد اللاجئين الفلسطينيين من خلال عشرات القوانين، القديمة والجديدة، التي حرمتهم من أبسط حقوقهم الانسانية، وكان من نتيجتها اقفال السوق اللبناني في وجه آلاف العمال من العمل وحملة الشهادات الجامعية، ناهيك عن حرمانهم من كل اشكال التملك وعدم استفادتهم من الخدمات الصحية للمؤسسات الرسمية اللبنانية، وغير ذلك من اجراءات وضعها كثير من اللبنانيين في خانة التمييز العنصري الذي ما زال متواصلا بأكثر من شكل..
4) تراجع الخدمات التي كانت تقدمها مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها المختلفة. ورغم ما تقدمه هذه المؤسسات اليوم من مساعدات صحية وتربوية، إلا ان ثقل المأساة وتزايد الاحتياجات تجعل هذه المؤسسات عاجزة عن الاستجابة للحد الادنى المطلوب..
بهذا الواقع الصعب، استقبل اللاجئون الفلسطينيون في لبنان «فيروس كورونا» في ظل غياب كلي لنظام صحي قادر على الاستجابة للحد الادنى مما تفرضه تحديات الفيروس الجديد، خاصة وأن النظام الصحي الذي تشرف عليه وكالة الغوث له معاييره الخاصة وهو يعتمد على خدمات الرعاية الصحية أكثر منه الطب العلاجي أو الاستشفائي. وما يبعث على القلق لدى اللاجئين أن المرجعيات السياسية الفلسطينية المعنية، ورغم إعلان الحكومة اللبنانية لحالة التعبئة العامة، لم تبادر الى الاجتماع، والمقصود هيئة العمل الفلسطيني المشترك التي تضم جميع المكونات الفلسطينية. وباستثناء اجتماع ضم السفير دبور ومدير الاونروا واميني سر منظمة التحرير والتحالف، واجتماع آخر لفصائل لمنظمة التحرير وعدد من الاجتماعات التشاورية، فلم تبادر الاطر المركزية لعقد اجتماعات تكون بمستوى المخاطر..
وأهمية هذه الاجتماعات، ورغم ضعف الامكانات الفلسطينية، غير أنها تبعث أولاً برسائل اطمئنان الى اللاجئين الفلسطينيين أنهم ليسوا وحدهم في مجال مواجهة فيروس كورونا.. وثانيا تعمل على وضع استراتيجية للتواصل مع المؤسسات الصحية على المستويين اللبناني والدولي وعلى مستوى لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني التي لم تبادر حتى الآن لاقتراح اي خطة وقائية تجاه المخيمات..
وثالثاً تستوعب وتستثمر وتشرف على المبادرات الشبابية التطوعية التي اخذت على عاتقها مهمة التوعية وحملات النظافة والتعقيم، وهي مبادرة مقدرة ومشكورة، الا انها ليست كافية ولا يمكن ان تستجيب لكل الاحتياجات..
لعل أهم وأخطر تحدي بالنسبة للاجئين هو مدى قدرتهم والتزامهم بتوجهات الحكومة اللبنانية التي اعلنت «حالة التعبئة العامة» وأدت إجراءاتها إلى شل الحركة الاقتصادية في جميع المناطق اللبنانية، وهو امر يتقاسمه اللاجئون الفلسطينيون مع المواطنين اللبنانيين، خاصة ما يتعلق بتأمين البدائل في حال تم الالتزام بدعوات «الحجر المنزلي»، رغم أن أوضاع اللبنانيين تظل أخف وطأة لجهة ما تقوم به البلديات وبعض المؤسسات من عمليات دعم واغاثة تخفف قليلا عن العائلات الفقيرة.. والاهم اقرار الحكومة حزمة مساعدات للأسر اللبنانية الفقيرة لا يستفيد منه اللاجئون الفلسطينيون.
إن ما يضاعف من حجم المشكلة بالنسبة للاجئين هو أن الحالة المستجدة بفعل «فيروس كورونا» قد جاءت في ظل حالة فلسطينية صحية واقتصادية واجتماعية لا تساعد على توفير مقومات الصمود في ظل عوامل خارجية زادت من صعوبة المشكلة:
أولها ان الدولة اللبنانية لم تشمل المخيمات باستراتيجيتها الصحية، وهي وأن سعت مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين لبناء مستشفيات ميدانية خاصة بالنازحين السوريين، إلا أن هذا الأمر لم يتوفر للاجئين الفلسطينيين الذي يقاومون ويواجهون تحديات الوباء بمبادرات فردية من قبل العاملين في الأونروا والهلال الأحمر ومن قبل فرق الدفاع المدني وعشرات المتطوعين الذين بادروا الى حملات توعية وتعقيم لمعظم الاحياء والشوارع والازقة الضيقة في المخيمات.. وكان يمكن لوزارة الصحة اللبنانية ان تبادر مع وكالة الغوث والمؤسسات الصحية المختلفة وبعض المتمولين الفلسطينيين لإقامة مستشفيات ميدانية مماثلة تحسبا لأي طارئ، رغم انه لم تسجل اي اصابة في المخيمات، غير ان شيئا من هذا لم يحصل.
ثانيها أن الاونروا لم تواكب دول العالم بإعلانها حالة طوارئ صحية تضع استراتيجية واضحة وخطط مباشرة وبديلة. ولعل حالة النقد المرتفعة من قبل اللاجئين لطريقة تعامل وكالة الغوث مع هذا الوباء يؤكد ان اللاجئين يلمسون تجاهلا او اهمالا واضحا من قبل الوكالة، التي لم تستجب للدعوات الملحة لتبني حالة طوارئ صحية واقتصادية الا بتاريخ 17 آذار عندما خاطبت الدول المانحة بنداء عاجل قالت فيه أنها تحتاج الى (14) مليون دولار «من اجل الاستجابة لتفشي وباء كوفيد – 19» وذلك لثلاثة أشهر في مناطق عملياتها الخمس. بعد ان اقرت الوكالة على لسان المفوض العام للأونروا بالإنابة بأن الظروف المعيشية الصعبة والاكتظاظ السكاني تجعل مجتمع اللاجئين المعرضين للمخاطر أكثر عرضة للإصابة بالفيروس.
ثالثها ان الفيروس طرح تحديات ومخاطر على اللاجئين الفلسطينيين ومخيماتهم في وقت لم يكونوا قد لملموا بعد جراح القرارات التي كانت وزارة العمل اللبنانية السابقة قد اتخذتها وقضت بتوقف العديد من العمال عن اعمالهم نتيجة ملاحقتهم من قبل الاجهزة اللبنانية المعنية بحجة عدم حيازتهم لإجازة العمل. وتلا هذه الاجراءات تحركات شعبية لبنانية شملت جميع الاراضي اللبنانية وما افرزته من تداعيات ضاعفت من حدة المشكلة لجهة اقفال المناطق وقطع الطرق وشل الحركة الاقتصادية..
طبيعة المشكلة يلخصها تساؤل يتردد على ألسنة الجميع: ماذا لو وصلت العدوى الى المخيمات الفلسطينية، ومن هي الجهة القادرة على التعاطي مع تداعياتها، خاصة في ظل عجز الحكومة اللبنانية عن الاستجابة لتحديات انتشار العدوى، بسبب ضعف القدرة الاستيعابية للمستشفيات الحكومية، خاصة بعد وصل الوباء الى مناطق لبنانية متداخلة مع المخيمات، ما يجعل الخطر أكثر قرباً من اللاجئين!
إن وكالة الغوث تعتبر «القطاع العام» ووزارة صحة اللاجئين، الذين يعتمدون عليها كمصدر رئيسي لتقديم الخدمات الصحية. وهذا ما يشير اليه المسح الأسري الاقتصادي الاجتماعي للاجئين الفلسطينيين في لبنان عام 2015، بأن 95% من اللاجئين الفلسطينيين ليس لديهم تأمين صحي وثلثهم يعانون من أمراض مزمنة، وأن أي إصابة بمرض مستعصٍ قد تدفع بالأسرة إلى مربع الفقر المحتم.
فاللاجئون الفلسطينيون لا يستفيدون من الخدمات الأساسية لمؤسسات الدولة اللبنانية، ولا من الخدمات التي تقدمها البلديات المختلفة في مجالات الصحة والنظافة والمياه وأنظمة الصرف الصحي وغيره. زد على ذلك ان الكثافة السكانية تعتبر واحدة من المشكلات الكبرى التي يشكو منها اللاجئون، بما تسببه من إشكالات على المستوى الصحي والبيئي، إذ يبلغ متوسّط عدد أفراد الأسرة نحو خمسة افراد.. ومثال ذلك أن مخيم عين الحلوة الذي يقع في جنوب لبنان لا تزيد مساحته على كيلومتر مربع واحد، ويسكنه ما يزيد عن 70 ألف نسمة(!).
إن البرنامج الصحي الذي تديره وكالة الغوث، غير قادر، حتى الآن، على التعاطي مع تفشي وباء كوفيد - 19، مثلها في ذلك مثل دول كبرى لم يستطع نظامها الصحي الاستجابة لتحديات الانتشار السريع للعدوى، ما يجعل من المستشفيات الميدانية التي تديرها وكالة الغوث بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية وغيرها من المؤسسات الصحية حاجة ملحة لا تحتمل اي تأجيل. كما أن هذا البرنامج هو بالأساس برنامج وقائي يهدف إلى حماية الحالة الصحية للاجئين الفلسطينيين وتوجيههم بالإرشادات الخاصة المستندة إلى المبادئ والمفاهيم الاساسية لمنظمة الصحة العالمية.
ورغم وجود حوالي 27 مركزا صحيا و (350) موظفا يشرفون على توفير الخدمات الصحية للاجئين التي تشمل: توفير الرعاية الاولية، بما فيها الرعاية الطبية والوقائية والعلاجية والخدمات الصحية للأم والطفل، وخدمات تنظيم الاسرة، ومشاريع تحسين الصحة البيئية، والرعاية الثانوية كالاستشفاء وغيرها من خدمات الاحالة. الا ان كل هذه المراكز غير معدة او مجهزة للتعاطي مع حالات استثنائية كالتي نعيشها اليوم..
أمام كل هذا، هناك جملة من المسؤوليات والمهام الوطنية التي تنتصب امام المرجعيات السياسية والصحية الفلسطينية واللبنانية والدولية والتي يمكن اختصارها بالآتي:
1) التعاطي مع تحديات فيروس كورونا باعتباره خطرا يهدد كل المجتمع الفلسطيني، وان وحدة كل المكونات السياسية والصحية والاقتصادية في مواجهة هذا الخطر هي مسؤولية وطنية. وهذا يتطلب من جميع الاطر، المبادرة لاجتماعات عاجلة لوضع استراتيجية عمل وطني وصحي واقتصادي بالتنسيق والتعاون مع جميع الهيئات والمؤسسات المعنية.
2) التعاطي مع وكالة الغوث باعتبارها المؤسسة المعنية بالإشراف على الحالة الصحية في المخيمات، وبالتنسيق مع جمعية الهلال الاحمر الفلسطيني وغيره من المؤسسات الصحية. وهذا يتطلب ايضا من الاونروا اقرار خطة طوارئ صحية مع كل ما يتطلبه ذلك من حشد للدعم الدولي لتجهيز بنى صحية تكون قادرة على التعاطي مع كل الاحتمالات..
3) مطالبة الدولة اللبنانية بتقديم خدماتها للمخيمات باعتبارها مناطق جغرافية على الاراضي اللبنانية وحمايتها هي مسؤولية الدولة اللبنانية بأجهزتها ومؤسساتها المختلفة، كما جاء على لسان رئيس الجمهورية. لذلك تبرز الحاجة الى ضرورة مد استراتيجية الدولة الصحية الى المخيمات سواء عبر الوزارات المعنية او عبر البلديات، وبعضها بدأ بهذه المهمة مشكوراً، وان كانت بشكل فردي. والطلب من المؤسسات الدولية دعم مؤسسات الوكالة والمؤسسات الصحية في المخيمات وتوفير مساعدات اقتصادية للعائلات الاكثر حاجة.
4) تأسيس صندوق مالي يساهم فيه رجال الاعمال والمقتدرين الفلسطينيين والمؤسسات لتوفير مستلزمات العمل الصحي والاغاثي، ودعوة ابناء الجاليات الفلسطينية في الخارج الى المساهمة في هذا الصندوق..
5) مواصلة الحملات التوعوية ودعوة ابناء المخيمات الى التجاوب مع ارشادات وتوجهات المؤسسات الصحية سواء بما يتعلق بالوقاية والنظافة او لجهة العزل المنزلي، ما أمكن، باعتباره من أنجع وسائل الحماية، وتشجيع المبادرات الانسانية التي تعزز صيغ التعاون والتنسيق والتكافل الاجتماعي..
قد لا تكون هذه الاجراءات كافية للاستجابة بشكل كامل للتحديات التي يطرحها وباء كورونا، إلا أنها تشكل أرضية ومقدمة لإجراءات ومبادرات أخرى نحن قادرون على استثمارها، خاصة حين تترافق هذه الاجراءات مع سياسات وحدوية وتضامنية مشتركة تجعل من المجتمع كتلة متراصة في مواجهة خطر لن يكون الأخير، في ظل فيروس آخر أكثر فتكاً ما زال موجوداً وينشر سمومه ورذاذه باتجاه كل عناوين القضية الفلسطينية وهو فيروس ترامب - نتنياهو، كما قال أمين عام الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين نايف حواتمة.
• مسؤول دائرة وكالة الغوث في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
لكن رغم الدمار الواسع الذي اصابها وتفكك نسيجها الاجتماعي نتيجة العدد الكبير من الشهداء والجرحى والمفقودين وآلاف المهجرين، والشعور العام بانسداد آفاق المستقبل، في ظل غياب المرجعيات الوطنية والخدماتية التي كانت ترعى شؤون عشرات الآلاف من اللاجئين. فقد بقيت المخيمات صامدة تصارع من اجل حقها بالحياة، وظلت مناطق وتجمعات موصوفة لبيئة وطنية تعج بالحياة.. ولعل هذا واحد من اسباب استهدافها بشكل مباشر بالمشروع الامريكي الاسرائيلي..
حين تعرضت المخيمات لسلسلة واسعة من الحروب، هبت عشرات المؤسسات والهيئات الانسانية لتقديم خدماتها، وأطلقت وكالة الغوث العديد من نداءات الطوارئ للاستجابة للاحتياجات المتزايدة، ولعبت الفصائل الفلسطينية ومؤسساتها ادوارا مهمة ساهمت، بشكل نسبي، في التخفيف من هول الكارثة الانسانية التي ظلت تجرجر نفسها سنة بعد أخرى حتى بداية المفاوضات العربية والفلسطينية الإسرائيلية والتي كان من نتائجها المباشرة:
1) طرح وكالة الغوث لعشرات السيناريوهات والاستراتيجيات التي بنت معطياتها على ارضية سلام مفترض وقادم، مع كل ما رافق ذلك من اعادة الدول المانحة لأولويات التمويل «المسيس» الذي كان يسير على وتر النتائج المحققة في عملية التسوية، ما أدى الى ضغوط متواصلة على موازنة وكالة الغوث التي ظلت تعاني من عجز مالي ما زال متواصلاً حتى اليوم، مع كل الآثار السلبية التي كان القطاعان الصحي والتربوي أهم ضحاياها، بحيث لم يجد اللاجئ أمام أي عارض صحي يتعرض له من ينقذه من خطر الموت المحتم الذي كان مصير العشرات.
2) تراجع تقديمات المنظمات غير الحكومية (NGOs) التي، وبتوجيهات سياسة واضحة، ركزت اهتماماتها على مواكبة عملية التسوية وما تحققه من نتائج على الارض، حيث كان من نتيجته تراجع اهتماماتها بأوضاع اللاجئين في الخارج الذين باتوا يرزحون تحت أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة، ووجهت عملها باتجاه الضفة الغربية وقطاع غزة لأسباب سياسية واضحة.
3) اتباع الدولة اللبنانية لسياسة تمييزية ضد اللاجئين الفلسطينيين من خلال عشرات القوانين، القديمة والجديدة، التي حرمتهم من أبسط حقوقهم الانسانية، وكان من نتيجتها اقفال السوق اللبناني في وجه آلاف العمال من العمل وحملة الشهادات الجامعية، ناهيك عن حرمانهم من كل اشكال التملك وعدم استفادتهم من الخدمات الصحية للمؤسسات الرسمية اللبنانية، وغير ذلك من اجراءات وضعها كثير من اللبنانيين في خانة التمييز العنصري الذي ما زال متواصلا بأكثر من شكل..
4) تراجع الخدمات التي كانت تقدمها مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها المختلفة. ورغم ما تقدمه هذه المؤسسات اليوم من مساعدات صحية وتربوية، إلا ان ثقل المأساة وتزايد الاحتياجات تجعل هذه المؤسسات عاجزة عن الاستجابة للحد الادنى المطلوب..
بهذا الواقع الصعب، استقبل اللاجئون الفلسطينيون في لبنان «فيروس كورونا» في ظل غياب كلي لنظام صحي قادر على الاستجابة للحد الادنى مما تفرضه تحديات الفيروس الجديد، خاصة وأن النظام الصحي الذي تشرف عليه وكالة الغوث له معاييره الخاصة وهو يعتمد على خدمات الرعاية الصحية أكثر منه الطب العلاجي أو الاستشفائي. وما يبعث على القلق لدى اللاجئين أن المرجعيات السياسية الفلسطينية المعنية، ورغم إعلان الحكومة اللبنانية لحالة التعبئة العامة، لم تبادر الى الاجتماع، والمقصود هيئة العمل الفلسطيني المشترك التي تضم جميع المكونات الفلسطينية. وباستثناء اجتماع ضم السفير دبور ومدير الاونروا واميني سر منظمة التحرير والتحالف، واجتماع آخر لفصائل لمنظمة التحرير وعدد من الاجتماعات التشاورية، فلم تبادر الاطر المركزية لعقد اجتماعات تكون بمستوى المخاطر..
وأهمية هذه الاجتماعات، ورغم ضعف الامكانات الفلسطينية، غير أنها تبعث أولاً برسائل اطمئنان الى اللاجئين الفلسطينيين أنهم ليسوا وحدهم في مجال مواجهة فيروس كورونا.. وثانيا تعمل على وضع استراتيجية للتواصل مع المؤسسات الصحية على المستويين اللبناني والدولي وعلى مستوى لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني التي لم تبادر حتى الآن لاقتراح اي خطة وقائية تجاه المخيمات..
وثالثاً تستوعب وتستثمر وتشرف على المبادرات الشبابية التطوعية التي اخذت على عاتقها مهمة التوعية وحملات النظافة والتعقيم، وهي مبادرة مقدرة ومشكورة، الا انها ليست كافية ولا يمكن ان تستجيب لكل الاحتياجات..
لعل أهم وأخطر تحدي بالنسبة للاجئين هو مدى قدرتهم والتزامهم بتوجهات الحكومة اللبنانية التي اعلنت «حالة التعبئة العامة» وأدت إجراءاتها إلى شل الحركة الاقتصادية في جميع المناطق اللبنانية، وهو امر يتقاسمه اللاجئون الفلسطينيون مع المواطنين اللبنانيين، خاصة ما يتعلق بتأمين البدائل في حال تم الالتزام بدعوات «الحجر المنزلي»، رغم أن أوضاع اللبنانيين تظل أخف وطأة لجهة ما تقوم به البلديات وبعض المؤسسات من عمليات دعم واغاثة تخفف قليلا عن العائلات الفقيرة.. والاهم اقرار الحكومة حزمة مساعدات للأسر اللبنانية الفقيرة لا يستفيد منه اللاجئون الفلسطينيون.
إن ما يضاعف من حجم المشكلة بالنسبة للاجئين هو أن الحالة المستجدة بفعل «فيروس كورونا» قد جاءت في ظل حالة فلسطينية صحية واقتصادية واجتماعية لا تساعد على توفير مقومات الصمود في ظل عوامل خارجية زادت من صعوبة المشكلة:
أولها ان الدولة اللبنانية لم تشمل المخيمات باستراتيجيتها الصحية، وهي وأن سعت مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين لبناء مستشفيات ميدانية خاصة بالنازحين السوريين، إلا أن هذا الأمر لم يتوفر للاجئين الفلسطينيين الذي يقاومون ويواجهون تحديات الوباء بمبادرات فردية من قبل العاملين في الأونروا والهلال الأحمر ومن قبل فرق الدفاع المدني وعشرات المتطوعين الذين بادروا الى حملات توعية وتعقيم لمعظم الاحياء والشوارع والازقة الضيقة في المخيمات.. وكان يمكن لوزارة الصحة اللبنانية ان تبادر مع وكالة الغوث والمؤسسات الصحية المختلفة وبعض المتمولين الفلسطينيين لإقامة مستشفيات ميدانية مماثلة تحسبا لأي طارئ، رغم انه لم تسجل اي اصابة في المخيمات، غير ان شيئا من هذا لم يحصل.
ثانيها أن الاونروا لم تواكب دول العالم بإعلانها حالة طوارئ صحية تضع استراتيجية واضحة وخطط مباشرة وبديلة. ولعل حالة النقد المرتفعة من قبل اللاجئين لطريقة تعامل وكالة الغوث مع هذا الوباء يؤكد ان اللاجئين يلمسون تجاهلا او اهمالا واضحا من قبل الوكالة، التي لم تستجب للدعوات الملحة لتبني حالة طوارئ صحية واقتصادية الا بتاريخ 17 آذار عندما خاطبت الدول المانحة بنداء عاجل قالت فيه أنها تحتاج الى (14) مليون دولار «من اجل الاستجابة لتفشي وباء كوفيد – 19» وذلك لثلاثة أشهر في مناطق عملياتها الخمس. بعد ان اقرت الوكالة على لسان المفوض العام للأونروا بالإنابة بأن الظروف المعيشية الصعبة والاكتظاظ السكاني تجعل مجتمع اللاجئين المعرضين للمخاطر أكثر عرضة للإصابة بالفيروس.
ثالثها ان الفيروس طرح تحديات ومخاطر على اللاجئين الفلسطينيين ومخيماتهم في وقت لم يكونوا قد لملموا بعد جراح القرارات التي كانت وزارة العمل اللبنانية السابقة قد اتخذتها وقضت بتوقف العديد من العمال عن اعمالهم نتيجة ملاحقتهم من قبل الاجهزة اللبنانية المعنية بحجة عدم حيازتهم لإجازة العمل. وتلا هذه الاجراءات تحركات شعبية لبنانية شملت جميع الاراضي اللبنانية وما افرزته من تداعيات ضاعفت من حدة المشكلة لجهة اقفال المناطق وقطع الطرق وشل الحركة الاقتصادية..
طبيعة المشكلة يلخصها تساؤل يتردد على ألسنة الجميع: ماذا لو وصلت العدوى الى المخيمات الفلسطينية، ومن هي الجهة القادرة على التعاطي مع تداعياتها، خاصة في ظل عجز الحكومة اللبنانية عن الاستجابة لتحديات انتشار العدوى، بسبب ضعف القدرة الاستيعابية للمستشفيات الحكومية، خاصة بعد وصل الوباء الى مناطق لبنانية متداخلة مع المخيمات، ما يجعل الخطر أكثر قرباً من اللاجئين!
إن وكالة الغوث تعتبر «القطاع العام» ووزارة صحة اللاجئين، الذين يعتمدون عليها كمصدر رئيسي لتقديم الخدمات الصحية. وهذا ما يشير اليه المسح الأسري الاقتصادي الاجتماعي للاجئين الفلسطينيين في لبنان عام 2015، بأن 95% من اللاجئين الفلسطينيين ليس لديهم تأمين صحي وثلثهم يعانون من أمراض مزمنة، وأن أي إصابة بمرض مستعصٍ قد تدفع بالأسرة إلى مربع الفقر المحتم.
فاللاجئون الفلسطينيون لا يستفيدون من الخدمات الأساسية لمؤسسات الدولة اللبنانية، ولا من الخدمات التي تقدمها البلديات المختلفة في مجالات الصحة والنظافة والمياه وأنظمة الصرف الصحي وغيره. زد على ذلك ان الكثافة السكانية تعتبر واحدة من المشكلات الكبرى التي يشكو منها اللاجئون، بما تسببه من إشكالات على المستوى الصحي والبيئي، إذ يبلغ متوسّط عدد أفراد الأسرة نحو خمسة افراد.. ومثال ذلك أن مخيم عين الحلوة الذي يقع في جنوب لبنان لا تزيد مساحته على كيلومتر مربع واحد، ويسكنه ما يزيد عن 70 ألف نسمة(!).
إن البرنامج الصحي الذي تديره وكالة الغوث، غير قادر، حتى الآن، على التعاطي مع تفشي وباء كوفيد - 19، مثلها في ذلك مثل دول كبرى لم يستطع نظامها الصحي الاستجابة لتحديات الانتشار السريع للعدوى، ما يجعل من المستشفيات الميدانية التي تديرها وكالة الغوث بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية وغيرها من المؤسسات الصحية حاجة ملحة لا تحتمل اي تأجيل. كما أن هذا البرنامج هو بالأساس برنامج وقائي يهدف إلى حماية الحالة الصحية للاجئين الفلسطينيين وتوجيههم بالإرشادات الخاصة المستندة إلى المبادئ والمفاهيم الاساسية لمنظمة الصحة العالمية.
ورغم وجود حوالي 27 مركزا صحيا و (350) موظفا يشرفون على توفير الخدمات الصحية للاجئين التي تشمل: توفير الرعاية الاولية، بما فيها الرعاية الطبية والوقائية والعلاجية والخدمات الصحية للأم والطفل، وخدمات تنظيم الاسرة، ومشاريع تحسين الصحة البيئية، والرعاية الثانوية كالاستشفاء وغيرها من خدمات الاحالة. الا ان كل هذه المراكز غير معدة او مجهزة للتعاطي مع حالات استثنائية كالتي نعيشها اليوم..
أمام كل هذا، هناك جملة من المسؤوليات والمهام الوطنية التي تنتصب امام المرجعيات السياسية والصحية الفلسطينية واللبنانية والدولية والتي يمكن اختصارها بالآتي:
1) التعاطي مع تحديات فيروس كورونا باعتباره خطرا يهدد كل المجتمع الفلسطيني، وان وحدة كل المكونات السياسية والصحية والاقتصادية في مواجهة هذا الخطر هي مسؤولية وطنية. وهذا يتطلب من جميع الاطر، المبادرة لاجتماعات عاجلة لوضع استراتيجية عمل وطني وصحي واقتصادي بالتنسيق والتعاون مع جميع الهيئات والمؤسسات المعنية.
2) التعاطي مع وكالة الغوث باعتبارها المؤسسة المعنية بالإشراف على الحالة الصحية في المخيمات، وبالتنسيق مع جمعية الهلال الاحمر الفلسطيني وغيره من المؤسسات الصحية. وهذا يتطلب ايضا من الاونروا اقرار خطة طوارئ صحية مع كل ما يتطلبه ذلك من حشد للدعم الدولي لتجهيز بنى صحية تكون قادرة على التعاطي مع كل الاحتمالات..
3) مطالبة الدولة اللبنانية بتقديم خدماتها للمخيمات باعتبارها مناطق جغرافية على الاراضي اللبنانية وحمايتها هي مسؤولية الدولة اللبنانية بأجهزتها ومؤسساتها المختلفة، كما جاء على لسان رئيس الجمهورية. لذلك تبرز الحاجة الى ضرورة مد استراتيجية الدولة الصحية الى المخيمات سواء عبر الوزارات المعنية او عبر البلديات، وبعضها بدأ بهذه المهمة مشكوراً، وان كانت بشكل فردي. والطلب من المؤسسات الدولية دعم مؤسسات الوكالة والمؤسسات الصحية في المخيمات وتوفير مساعدات اقتصادية للعائلات الاكثر حاجة.
4) تأسيس صندوق مالي يساهم فيه رجال الاعمال والمقتدرين الفلسطينيين والمؤسسات لتوفير مستلزمات العمل الصحي والاغاثي، ودعوة ابناء الجاليات الفلسطينية في الخارج الى المساهمة في هذا الصندوق..
5) مواصلة الحملات التوعوية ودعوة ابناء المخيمات الى التجاوب مع ارشادات وتوجهات المؤسسات الصحية سواء بما يتعلق بالوقاية والنظافة او لجهة العزل المنزلي، ما أمكن، باعتباره من أنجع وسائل الحماية، وتشجيع المبادرات الانسانية التي تعزز صيغ التعاون والتنسيق والتكافل الاجتماعي..
قد لا تكون هذه الاجراءات كافية للاستجابة بشكل كامل للتحديات التي يطرحها وباء كورونا، إلا أنها تشكل أرضية ومقدمة لإجراءات ومبادرات أخرى نحن قادرون على استثمارها، خاصة حين تترافق هذه الاجراءات مع سياسات وحدوية وتضامنية مشتركة تجعل من المجتمع كتلة متراصة في مواجهة خطر لن يكون الأخير، في ظل فيروس آخر أكثر فتكاً ما زال موجوداً وينشر سمومه ورذاذه باتجاه كل عناوين القضية الفلسطينية وهو فيروس ترامب - نتنياهو، كما قال أمين عام الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين نايف حواتمة.
• مسؤول دائرة وكالة الغوث في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
أضف تعليق