أية نكسة أصيب بها المسار الإقليمي لصفقة ترامب – نتنياهو؟
• لماذا أقلق الرياض وتل أبيب انسحاب ترامب المفاجئ من شمال سوريا؟
• هل كان القلق خوفاً على الأكراد، أم تخوفاً من انسحاب أميركي مفاجئ من «منطقة الشرق الأوسط»؟
•..وكيف قرأت الرياض إحجام ترامب عن ضرب إيران بذريعة صون أمن الخليج ونفطه؟
• ما هي الاستنتاجات التي توصلت لها الرياض من غياب «قوة الردع» الأميركية في المنطقة؟
• لماذا ساد القلق إسرائيل من الانسحاب الأميركي وما هي ردود فعل قيادة الجيش والرأي العام؟
• ماذا استخلصت إسرائيل من خطوة الانسحاب الأميركي المفاجئ؟
• ..وأخيراً.. كيف قرأت السلطة في رام الله هذا التطور الإقليمي الواسع؟
(1)
■لم تعد الدوائر الغربية تخفي تقديرها أن المسار الإقليمي «لصفقة ترامب – نتنياهو»، والتي أطلق عليها «صفة القرن» قد أصيت بنكسة، في ضوء الانسحاب الأميركي المفاجئ من سوريا، جنوباً، نحو الحدود العراقية، وترك المجموعات الكردية بلا حماية في مواجهة مخاطر الغزو التركي. إذ ترى هذه الدوائر أن الخطوة الأميركية المفاجئة، لا تقتصر تداعياتها، على الأوضاع في سوريا، وعلى انعكاساتها في الإطار الثلاثي «الأكراد – الدولة السورية – تركيا»، بل تمتد إلى أبعد من ذلك، لتلقي الضوء، بشكل أكثر سطوعاً، على مضمون الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وعن طبيعة العلاقات بينها وبين حلفائها المقربين، وبشكل خاص، إسرائيل من جهة، والأنظمة الخليجية من جهة أخرى.
وتستند هذه التقديرات إلى الإدراك العميق لصفقة ترامب – نتنياهو، باعتبارها مشروعاً سياسياً يسير على مسارين منفصلين، في التطبيق، لكنهما متشابكان في الأهداف والتداعيات، وتربط بينهما أكثر من صلة، وصولاً إلى النتائج النهاية لهما معاً.
«ففلسفة» صفقة «ترامب نتنياهو»، والتي ولدت فكرتها في مؤتمر الرياض في العام 2017، بحضور رئيس الولايات المتحدة ترامب، وممثلي أكثر من خمسين دولة عربية ومسلمة، تقوم على إعادة صياغة المعادلات الإقليمية، وإعادة صياغة المعابير والقيم، بحيث، خلافاً لما كان معتمداً في حسابات الدول العربية، لم تعد إسرائيل هي الخطر الذي يتهدد مصالح الدول والأنظمة والشعوب في المنطقة، بل إن الخطر الحقيقي يتمثل في «الإرهاب» الذي «تشكل إيران مصدره الرئيس وحاضناً له»، ويشكل حلفاؤها في المنطقة، وحزب الله بشكل خاص، «أداته الرئيسية»، هذا «الخطر» الإيراني، لا يطال الحالة العربية فقط، خاصة دول الخليج، بل يطال كذلك وجود إسرائيل وأمنها، كما يطال المصالح الأميركية والغربية بشكل خاص، المتمثلة في الاحتياطي النفطي الكبير في المنطقة، وموقع المنطقة الاستراتيجي، باعتبارها عقدة طرق وخطوط مواصلات دولية، فضلاً عن كونها سوقاً واسعة للبضائع والمنتجات الغربية العسكرية منها والأمنية والاستهلاكية بشكل عام.
مثل هذا الخطر، المبني مفهومه، وتشخيصه على المعادلات الأميركية – الإسرائيلية «الجديدة» للصراع في المنطقة، يستدعي قيام «حلف إقليمي» يشكل أركانه الأطراف الثلاثة: الولايات المتحدة ( باعتبارها الحليف الأكبر والرافعة الكبرى لهذا الحلف وغطاءه السياسي ) والأنظمة العربية في الخليج ( باعتبارها مهددة من الخطر الإيراني)، ودولة إسرائيل، انطلاقا من الموقع «الاستراتيجي» الذي تحتله في الحسابات الإقليمية، كما ترسمها الولايات المتحدة، وباعتبارها الطرف «الأكثر تعرضاً للخطر الإيراني»، في وقت «لا يتوقف فيه قادة إيران، والمتحدثون باسم حزب الله، وأطراف أخرى موالية، عن الحديث عن ضرورة إزالة دولة إسرائيل».
مثل هذا «التحالف»، والذي أعلنت الولايات المتحدة عنه، قبل أن تضع له أسس تشكيله، ودوائره، وآليات عمله، أخذ طابعه السياسي المعلن، وشبه المعلن، في أكثر من محطة، كان أبرزها «ورشة البحرين» الاقتصادية، والانفتاح على إسرائيل من قبل أنظمة خليجية، في مقدمها قطر والبحرين، والإمارات، وسلطنة عمان، كما دار الحديث عن مشاريع كبرى تربط بين إسرائيل ومنطقة الخليج، ومنها، طبقاً لمصادر إسرائيلية وغربية، خط السكة الحديدية الممتد من قلب شبه الجزيرة العربية حتى شواطئ دولة إسرائيل.
(2)
«العقدة» أمام سير الحلف الإقليمي، كأحد مساري «صفقة ترامب – نتنياهو»، تمثلت كما هو معروف، بالمسألة الفلسطينية وحلها باعتبارها عنواناً للصراع العربي الإسرائيلي. واستندت الأنظمة الخليجية إلى مبادرة بيروت (2002)، التي رهنت تطبيع العلاقات مع إسرائيل بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية العربية بعدوان حزيران 67، وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس على حدود 4 حزيران 67، و« حل عادل لقضية اللاجئين».
ليس مستغرباً أن يطغى على «صفقة ترامب – نتنياهو»، وجهها الفلسطيني، لأن الحقائق، كما تفرض نفسها، تقر أن القضية المركزية في المنطقة ليست الخطر الإيراني (كما تزعم إسرائيل والولايات المتحدة وأنظمة عربية أخرى)، بل هو القضية الوطنية لشعب فلسطين، وحلها بما يوفر له حقوقه الوطنية المشروعة، في تقرير مصيره، واستقلاله وسيادته، وعودة أبنائه اللاجئين إلى ديارهم التي هجروا منها منذ العام 1948.
بالمقابل طرحت دولة الاحتلال «حلها»، بطبعته الليكودية، وقدمت مشروعاً أطلق عليه «الحل الاقتصادي»، يقوم على منح الفلسطينيين حكماً ذاتياً (للسكان) وإطلاق رزمة مشاريع تنموية في مناطقهم، ترفع مستوى معيشتهم، تمول موازناتها «السخية» الدول العربية الغنية، والاتحاد الأوروبي واليابان، في ظل الهيمنة السياسية والأمنية والتبعية لإسرائيل، كحاضنة للكيان الفلسطيني؛ وإنهاء قضية اللاجئين بحلول بديلة لحق العودة، تتراوح بين التوطين والتهجير، تحت مسمى «البحث عن مكان سكن دائم للاجئين».
ودون الدخول في التفاصيل، فقد بدا واضحاً أن الخطوات الأميركية في تطبيقات صفقة ترامب، نتنياهو، أخذت بـ«الحل الاقتصادي» دليلاً لها. فاستبقت الإعلان عن الشق السياسي لـ «الصفقة»، واعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبضمها للجولان، وبشرعية الاستيطان، وأغلقت مفوضية م.ت.ف في واشنطن، وفرضت الحظر المالي على السلطة الفلسطينية، ودعت إلى حل وكالة الغوث، ونزع صفة اللجوء عن ملايين اللاجئين، واعترفت لإسرائيل بحقها في ضم الأجزاء الواسعة من الضفة الفلسطينية، أي المنطقة (ج) وتحديداً منطقة الغور وشمال البحر الميت، والتلويح بأن الحل النهائي لن يتجاوز حقوق الفلسطينيين في «حكومة» (أي إدارة ذاتية وليست دولة مستقلة)، وعلى قاعدة تفترض أن هذه الخطوات، وما سيتلوها، وصولاً إلى «الحل الاقتصادي»، هي الحل «الواقعي والعملي» للقضية الفلسطينية، تنفتح الأبواب من خلالها على مصراعيها «للسلام» و«التطبيع» العربي – الإسرائيلي، بعد أن تجاوزت العديد من الأنظمة التزاماتها نحو الشعب الفلسطيني، وفتحت بقرار منها، هذه الأبواب بذريعة واهية: السيادة الوطنية.
(3)
التخوف علامات انعكاسه «الإقليمي» جاءت أولاً من الرياض، حين لاحظت أن «قوة الردع» الأميركية بدأت تفقد دورها وتأثيرها الذي كانت تراهن عليه. وقوة الردع ليست معطى دائماً بل هي رهن باستعداد صاحب القوة لاستعمالها في اللحظات الضرورية؛ وهو الأمر الذي سجلت الرياض على حليفتها واشنطن أنها لم تلجأ إلى هذه القوة، فأصبحت قوة مشلولة.
لاحظت ذلك عندما أسقطت طهران طائرة أميركية مسيرة كانت تقوم بأعمال التجسس في منطقة الخليج. ترقب العالم رد الفعل الأميركي، ليكتفي ترامب «بالتوضيح» أن الرد الأميركي على طهران كان سيكلفه حوالي 150 قتيلاً من جنوده، لذلك أحجم عن الرد. ثم تلا ذلك انفجار ناقلة النفط، الذي اتهمت به طهران، وقيل يومها إن سبب الانفجار، هو لغم بحري زرعته البحرية الإيرانية في طريق ناقلات النفط، لمنع تصدير النفط في الخليج مالم يرفع الحظر عن النفط الإيراني.
ثم قيل إن الانفجار سببه زورق مفخخ. وفي الحالتين أنكرت طهران مسؤوليتها. وتوقع «حلفاء» واشنطن أن يشكل هذا الحدث سبباً كافياً لتوجيه الضربة لإيران. غير أن ترامب فاجأ الجميع بالقول إن نفط الخليج لم يعد يشكل عند إدارته مورداً استراتيجيا، كما كان الحال عليه فيما مضى، في محاولة لتبرير وتفسير عدم رغبته في الانجرار إلى نزاع مسلح مع طهران.
ثم جاءت بعد ذلك حادثة حجز الناقلة الإيرانية في جبل طارق، والرد الإيراني الفوري بحجز ناقلة بريطانية، وخلافاً لما أرادته الرياض، انتهت الأزمة بتبادل إطلاق سراح الناقلتين، في خطوة سجلت لصالح طهران.
ولعل الهيبة الأميركية تلقت صفعة كبيرة حين أعلنت قراراً قضائياً بإلقاء القبض على الباخرة الإيرانية، وطلبت من دول المتوسط عدم استقبالها.
عبرت الناقلة الإيرانية مضيق جبل طارق، وصولاً إلى مرفأ طرطوس في سوريا، وأفرغت حمولتها، دون أن يبدر عن واشنطن أية خطوة عملية سوى البيانات اللفظية.
غير أن الحدث الأكبر الذي أذهل حلفاء واشنطن، تمثل بالقصف الصاروخي الذي تعرضت له شركة أرامكو السعودية، فعطل نصف طاقتها على الإنتاج. أنصار الله في اليمن (الحوثيون) أعلنوا مسؤوليتهم عن العملية، الأمر الذي استبعده المراقبون الغربيون، وأشاروا بإصبع الاتهام إلى «موقع إيراني» في جنوب العراق، هو الذي قصف أرامكو بتعليمات من طهران.
الحدث كان كبيراً، وأحدث صدمة في أسواق النفط العالمية. واحتل المقام الأول في اهتمامات عواصم العالم، وتوقعت الرياض أن يكون الرد الأميركي هذه المرة حازماً وحاسماً، وعلى مستوى الحدث. لكن خابت آمال القيادة السياسية والعسكرية في الرياض، وأغلقت دائرة الاستنتاج، في أن الرهان على القوة الأميركية، في إطار حلف إقليمي، يشكل «رادعاً» لإيران، هو رهان فاشل، خاصة بعد أن أطلت الوساطة الفرنسية برأسها، إبان انعقاد مؤتمر الدول الكبرى في العاصمة الفرنسية، اقترح فيها الرئيس ماكرون على الطرفين، الإيراني والأميركي، العودة إلى الحوار والمفاوضات؛ بلا شروط. المفاجأة، لحلفاء أميركا، أن ترامب وافق على الاقتراح الفرنسي، وأن وزير خارجية طهران رفض العرض مشترطاً رفع الاجراءات الأميركية عن إيران، ما بعث برسالة إلى الرأي العام، حول حدود الموقف الأميركي، ومدى استعداده للذهاب في مساندة حلفائه، في النزاع الإقليمي مع إيران.
ودون الدخول في التفاصيل، لاحظ المراقبون، كيف أن الرياض خطت، على ضوء قراءتها للسياسة الأميركية، الحاملة للمفاجآت غير المحدودة، إذ فرملت اندفاعتها ضد إيران، وطلبت من رئاسة باكستان التوسط بين الرياض وطهران، لمفاوضات ثنائية، كما لاحظوا كيف أن الرياض بدأت تتوجه نحو موسكو، في لعبة توازن في العلاقات الدولية.
(4)
إذا كانت أصداء السياسة الأميركية في المنطقة كانت واضحة في رد الفعل في العربية السعودية، فإنها لم تكن أقل وضوحاً في تل أبيب.
إذ كشف نظير مجلي في «الشرق الأوسط» (19/10/2019) أن نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، عبر عن قلق حكومته الشديد من تطورات الأوضاع في شمال سوريا في أعقاب الانسحاب الأميركي والاتفاق مع تركيا على إجلاء الأكراد.
وقال مجلي إن اللقاء الذي جمع نتنياهو ووزير خارجية ترامب، بومبيو، سادته أجواء «بدت قاتمة» إذ عبر كثير من قادة الجيش والمخابرات عن «قلقهم من التطورات في سوريا وتبعاتها على مستقبل المنطقة». وقد أبدوا تخوفهم من أن يؤدي الانسحاب الأميركي إلى «مواجهة حربية بين إسرائيل والمحور الإيراني». كما يرى قادة إسرائيل أنه مع الانسحاب الأميركي، «حل محل الشرطي الإقليمي الأميركي رئيس روسيا(..) فذات يوم من شأنه أن يقرر أنه ملّ أيضاً النشاطات الإسرائيلية ضد إيران في سوريا، فيضع أمام سلاح الجو الإسرائيلي تحديات لم يصطدم بها منذ زمن بعيد».
صحيفة هآرتس (18/10/2019) نقلت على لسان مسؤول إسرائيلي وصفه الخطوة الأميركية في شمال سوريا، بأنها «خيانة للأكراد وأنها ليست موضوعاً محلياً بل فصل مقلق آخر في آثار السياسة الأميركية على التطورات الأميركية».
أما عاموس هرئيل، المحلل العسكري في «هآرتس» فقد علق قائلاً «إن أجندة الرئيس الأميركي تتلخص في جعل الولايات المتحدة صغيرة مرة أخرى وأن انسحابه من الشرق الأوسط يعني منح مفاتيح النفوذ لإيران».
أما المحلل العسكري في موقع «وإلا» الإلكتروني الإسرائيلي، فقد تخوف من «أن تتواصل التغييرات في الشرق الأوسط وإمكانية أن تنفذ الولايات المتحدة انسحابات أخرى (ترغم إسرائيل) كي ترفع حالة التأهب في الأجهزة الأمنية». وبحسبه «فإن هجوم إيران والحوثيين على أرامكو وانسحاب القوات الأميركية من سوريا، وفتح المعبر البري بين العراق وسوريا وحرب تركيا على الأكراد (..) يزيد من احتمالات حصول تغييرات على الحدود» (مع إسرائيل في لبنان، وسوريا، وقطاع غزة) محذراً في الوقت نفسه مما سماه «الجهود الإيرانية في استغلال الأحداث الإقليمية لتغيير موازين القوى وشن هجوم على أهداف إسرائيلية».
(5)
إلى جانب الاهتمام بالمسار الإقليمي لصفقة «ترامب – نتنياهو»، والنكسة التي أصيب بها هذا المسار، في ظل سياسات ترامب المبنية على المفاجآت، في الإقليم، وفي مناطق أخرى من العالم، وفي تغيير مساعديه في البيت الأبيض، وفي الإدارة الأميركية، من الضروري الالتفات إلى الداخل الإسرائيلي.
إسرائيل قلقة من مفاجآت السياسة الأميركية.
إسرائيل ضعفت ثقتها في سياسة ترامب بحيث ارتفعت أصوات عالية تدعو نتنياهو إلى التوقف عن الرهان على «صداقته» مع ترامب.
في إسرائيل دعوات إلى تعزيز القدرات الدفاعية الجوية والصاروخية للجيش بعد حادثة أرامكو، وكيف أن ترامب «ترك السعودية وحيدة».
في جيش إسرائيل دعوات إلى إعادة النظر بالموازنات المخصصة للأجهزة الأمنية، لرفع جاهزية الجيش والأذرع الأمنية الأخرى.
رئيس هيئة الأركان في الجيش الإسرائيلي لا يكف عن إبداء «قلقه من التطورات الإقليمية» التي قد ترفع مستوى «الخطر الأمني على إسرائيل».
وفي إسرائيل أيضاً أزمة سياسية، حيث فشل نتنياهو، في جولة الانتخابات الثانية في تشكيل الحكومة.
تحالف «أزرق – أبيض» يعاني هو الآخر في البحث عن مخرج للأزمة. رئيس الدولة يتخوف من خطورة الذهاب إلى جولة انتخابات ثالثة في أقل من عام.
السؤال: ماهي استراتيجية السلطة الفلسطينية وقيادتها إزاء كل هذه التطورات؟
هل مازالت – يا ترى– تراهن على العودة إلى المفاوضات، «ولا شيء سوى المفاوضات، علنية، كانت أم سرية، ثنائية كانت أم غير ثنائية»؟
أم أنها تملك الإرادة على المراجعة، على غرار المراجعات الكبرى التي تجريها الأطراف الإقليمية في المنطقة، من طهران، إلى الرياض، إلى تل أبيب، القاهرة، إلى وأنقرة.
أم أن الحالة السياسية العليا في الحالة الفلسطينية فقدت الإحساس بالزمان والمكان؟■
• هل كان القلق خوفاً على الأكراد، أم تخوفاً من انسحاب أميركي مفاجئ من «منطقة الشرق الأوسط»؟
•..وكيف قرأت الرياض إحجام ترامب عن ضرب إيران بذريعة صون أمن الخليج ونفطه؟
• ما هي الاستنتاجات التي توصلت لها الرياض من غياب «قوة الردع» الأميركية في المنطقة؟
• لماذا ساد القلق إسرائيل من الانسحاب الأميركي وما هي ردود فعل قيادة الجيش والرأي العام؟
• ماذا استخلصت إسرائيل من خطوة الانسحاب الأميركي المفاجئ؟
• ..وأخيراً.. كيف قرأت السلطة في رام الله هذا التطور الإقليمي الواسع؟
(1)
■لم تعد الدوائر الغربية تخفي تقديرها أن المسار الإقليمي «لصفقة ترامب – نتنياهو»، والتي أطلق عليها «صفة القرن» قد أصيت بنكسة، في ضوء الانسحاب الأميركي المفاجئ من سوريا، جنوباً، نحو الحدود العراقية، وترك المجموعات الكردية بلا حماية في مواجهة مخاطر الغزو التركي. إذ ترى هذه الدوائر أن الخطوة الأميركية المفاجئة، لا تقتصر تداعياتها، على الأوضاع في سوريا، وعلى انعكاساتها في الإطار الثلاثي «الأكراد – الدولة السورية – تركيا»، بل تمتد إلى أبعد من ذلك، لتلقي الضوء، بشكل أكثر سطوعاً، على مضمون الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وعن طبيعة العلاقات بينها وبين حلفائها المقربين، وبشكل خاص، إسرائيل من جهة، والأنظمة الخليجية من جهة أخرى.
وتستند هذه التقديرات إلى الإدراك العميق لصفقة ترامب – نتنياهو، باعتبارها مشروعاً سياسياً يسير على مسارين منفصلين، في التطبيق، لكنهما متشابكان في الأهداف والتداعيات، وتربط بينهما أكثر من صلة، وصولاً إلى النتائج النهاية لهما معاً.
«ففلسفة» صفقة «ترامب نتنياهو»، والتي ولدت فكرتها في مؤتمر الرياض في العام 2017، بحضور رئيس الولايات المتحدة ترامب، وممثلي أكثر من خمسين دولة عربية ومسلمة، تقوم على إعادة صياغة المعادلات الإقليمية، وإعادة صياغة المعابير والقيم، بحيث، خلافاً لما كان معتمداً في حسابات الدول العربية، لم تعد إسرائيل هي الخطر الذي يتهدد مصالح الدول والأنظمة والشعوب في المنطقة، بل إن الخطر الحقيقي يتمثل في «الإرهاب» الذي «تشكل إيران مصدره الرئيس وحاضناً له»، ويشكل حلفاؤها في المنطقة، وحزب الله بشكل خاص، «أداته الرئيسية»، هذا «الخطر» الإيراني، لا يطال الحالة العربية فقط، خاصة دول الخليج، بل يطال كذلك وجود إسرائيل وأمنها، كما يطال المصالح الأميركية والغربية بشكل خاص، المتمثلة في الاحتياطي النفطي الكبير في المنطقة، وموقع المنطقة الاستراتيجي، باعتبارها عقدة طرق وخطوط مواصلات دولية، فضلاً عن كونها سوقاً واسعة للبضائع والمنتجات الغربية العسكرية منها والأمنية والاستهلاكية بشكل عام.
مثل هذا الخطر، المبني مفهومه، وتشخيصه على المعادلات الأميركية – الإسرائيلية «الجديدة» للصراع في المنطقة، يستدعي قيام «حلف إقليمي» يشكل أركانه الأطراف الثلاثة: الولايات المتحدة ( باعتبارها الحليف الأكبر والرافعة الكبرى لهذا الحلف وغطاءه السياسي ) والأنظمة العربية في الخليج ( باعتبارها مهددة من الخطر الإيراني)، ودولة إسرائيل، انطلاقا من الموقع «الاستراتيجي» الذي تحتله في الحسابات الإقليمية، كما ترسمها الولايات المتحدة، وباعتبارها الطرف «الأكثر تعرضاً للخطر الإيراني»، في وقت «لا يتوقف فيه قادة إيران، والمتحدثون باسم حزب الله، وأطراف أخرى موالية، عن الحديث عن ضرورة إزالة دولة إسرائيل».
مثل هذا «التحالف»، والذي أعلنت الولايات المتحدة عنه، قبل أن تضع له أسس تشكيله، ودوائره، وآليات عمله، أخذ طابعه السياسي المعلن، وشبه المعلن، في أكثر من محطة، كان أبرزها «ورشة البحرين» الاقتصادية، والانفتاح على إسرائيل من قبل أنظمة خليجية، في مقدمها قطر والبحرين، والإمارات، وسلطنة عمان، كما دار الحديث عن مشاريع كبرى تربط بين إسرائيل ومنطقة الخليج، ومنها، طبقاً لمصادر إسرائيلية وغربية، خط السكة الحديدية الممتد من قلب شبه الجزيرة العربية حتى شواطئ دولة إسرائيل.
(2)
«العقدة» أمام سير الحلف الإقليمي، كأحد مساري «صفقة ترامب – نتنياهو»، تمثلت كما هو معروف، بالمسألة الفلسطينية وحلها باعتبارها عنواناً للصراع العربي الإسرائيلي. واستندت الأنظمة الخليجية إلى مبادرة بيروت (2002)، التي رهنت تطبيع العلاقات مع إسرائيل بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية العربية بعدوان حزيران 67، وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس على حدود 4 حزيران 67، و« حل عادل لقضية اللاجئين».
ليس مستغرباً أن يطغى على «صفقة ترامب – نتنياهو»، وجهها الفلسطيني، لأن الحقائق، كما تفرض نفسها، تقر أن القضية المركزية في المنطقة ليست الخطر الإيراني (كما تزعم إسرائيل والولايات المتحدة وأنظمة عربية أخرى)، بل هو القضية الوطنية لشعب فلسطين، وحلها بما يوفر له حقوقه الوطنية المشروعة، في تقرير مصيره، واستقلاله وسيادته، وعودة أبنائه اللاجئين إلى ديارهم التي هجروا منها منذ العام 1948.
بالمقابل طرحت دولة الاحتلال «حلها»، بطبعته الليكودية، وقدمت مشروعاً أطلق عليه «الحل الاقتصادي»، يقوم على منح الفلسطينيين حكماً ذاتياً (للسكان) وإطلاق رزمة مشاريع تنموية في مناطقهم، ترفع مستوى معيشتهم، تمول موازناتها «السخية» الدول العربية الغنية، والاتحاد الأوروبي واليابان، في ظل الهيمنة السياسية والأمنية والتبعية لإسرائيل، كحاضنة للكيان الفلسطيني؛ وإنهاء قضية اللاجئين بحلول بديلة لحق العودة، تتراوح بين التوطين والتهجير، تحت مسمى «البحث عن مكان سكن دائم للاجئين».
ودون الدخول في التفاصيل، فقد بدا واضحاً أن الخطوات الأميركية في تطبيقات صفقة ترامب، نتنياهو، أخذت بـ«الحل الاقتصادي» دليلاً لها. فاستبقت الإعلان عن الشق السياسي لـ «الصفقة»، واعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبضمها للجولان، وبشرعية الاستيطان، وأغلقت مفوضية م.ت.ف في واشنطن، وفرضت الحظر المالي على السلطة الفلسطينية، ودعت إلى حل وكالة الغوث، ونزع صفة اللجوء عن ملايين اللاجئين، واعترفت لإسرائيل بحقها في ضم الأجزاء الواسعة من الضفة الفلسطينية، أي المنطقة (ج) وتحديداً منطقة الغور وشمال البحر الميت، والتلويح بأن الحل النهائي لن يتجاوز حقوق الفلسطينيين في «حكومة» (أي إدارة ذاتية وليست دولة مستقلة)، وعلى قاعدة تفترض أن هذه الخطوات، وما سيتلوها، وصولاً إلى «الحل الاقتصادي»، هي الحل «الواقعي والعملي» للقضية الفلسطينية، تنفتح الأبواب من خلالها على مصراعيها «للسلام» و«التطبيع» العربي – الإسرائيلي، بعد أن تجاوزت العديد من الأنظمة التزاماتها نحو الشعب الفلسطيني، وفتحت بقرار منها، هذه الأبواب بذريعة واهية: السيادة الوطنية.
(3)
التخوف علامات انعكاسه «الإقليمي» جاءت أولاً من الرياض، حين لاحظت أن «قوة الردع» الأميركية بدأت تفقد دورها وتأثيرها الذي كانت تراهن عليه. وقوة الردع ليست معطى دائماً بل هي رهن باستعداد صاحب القوة لاستعمالها في اللحظات الضرورية؛ وهو الأمر الذي سجلت الرياض على حليفتها واشنطن أنها لم تلجأ إلى هذه القوة، فأصبحت قوة مشلولة.
لاحظت ذلك عندما أسقطت طهران طائرة أميركية مسيرة كانت تقوم بأعمال التجسس في منطقة الخليج. ترقب العالم رد الفعل الأميركي، ليكتفي ترامب «بالتوضيح» أن الرد الأميركي على طهران كان سيكلفه حوالي 150 قتيلاً من جنوده، لذلك أحجم عن الرد. ثم تلا ذلك انفجار ناقلة النفط، الذي اتهمت به طهران، وقيل يومها إن سبب الانفجار، هو لغم بحري زرعته البحرية الإيرانية في طريق ناقلات النفط، لمنع تصدير النفط في الخليج مالم يرفع الحظر عن النفط الإيراني.
ثم قيل إن الانفجار سببه زورق مفخخ. وفي الحالتين أنكرت طهران مسؤوليتها. وتوقع «حلفاء» واشنطن أن يشكل هذا الحدث سبباً كافياً لتوجيه الضربة لإيران. غير أن ترامب فاجأ الجميع بالقول إن نفط الخليج لم يعد يشكل عند إدارته مورداً استراتيجيا، كما كان الحال عليه فيما مضى، في محاولة لتبرير وتفسير عدم رغبته في الانجرار إلى نزاع مسلح مع طهران.
ثم جاءت بعد ذلك حادثة حجز الناقلة الإيرانية في جبل طارق، والرد الإيراني الفوري بحجز ناقلة بريطانية، وخلافاً لما أرادته الرياض، انتهت الأزمة بتبادل إطلاق سراح الناقلتين، في خطوة سجلت لصالح طهران.
ولعل الهيبة الأميركية تلقت صفعة كبيرة حين أعلنت قراراً قضائياً بإلقاء القبض على الباخرة الإيرانية، وطلبت من دول المتوسط عدم استقبالها.
عبرت الناقلة الإيرانية مضيق جبل طارق، وصولاً إلى مرفأ طرطوس في سوريا، وأفرغت حمولتها، دون أن يبدر عن واشنطن أية خطوة عملية سوى البيانات اللفظية.
غير أن الحدث الأكبر الذي أذهل حلفاء واشنطن، تمثل بالقصف الصاروخي الذي تعرضت له شركة أرامكو السعودية، فعطل نصف طاقتها على الإنتاج. أنصار الله في اليمن (الحوثيون) أعلنوا مسؤوليتهم عن العملية، الأمر الذي استبعده المراقبون الغربيون، وأشاروا بإصبع الاتهام إلى «موقع إيراني» في جنوب العراق، هو الذي قصف أرامكو بتعليمات من طهران.
الحدث كان كبيراً، وأحدث صدمة في أسواق النفط العالمية. واحتل المقام الأول في اهتمامات عواصم العالم، وتوقعت الرياض أن يكون الرد الأميركي هذه المرة حازماً وحاسماً، وعلى مستوى الحدث. لكن خابت آمال القيادة السياسية والعسكرية في الرياض، وأغلقت دائرة الاستنتاج، في أن الرهان على القوة الأميركية، في إطار حلف إقليمي، يشكل «رادعاً» لإيران، هو رهان فاشل، خاصة بعد أن أطلت الوساطة الفرنسية برأسها، إبان انعقاد مؤتمر الدول الكبرى في العاصمة الفرنسية، اقترح فيها الرئيس ماكرون على الطرفين، الإيراني والأميركي، العودة إلى الحوار والمفاوضات؛ بلا شروط. المفاجأة، لحلفاء أميركا، أن ترامب وافق على الاقتراح الفرنسي، وأن وزير خارجية طهران رفض العرض مشترطاً رفع الاجراءات الأميركية عن إيران، ما بعث برسالة إلى الرأي العام، حول حدود الموقف الأميركي، ومدى استعداده للذهاب في مساندة حلفائه، في النزاع الإقليمي مع إيران.
ودون الدخول في التفاصيل، لاحظ المراقبون، كيف أن الرياض خطت، على ضوء قراءتها للسياسة الأميركية، الحاملة للمفاجآت غير المحدودة، إذ فرملت اندفاعتها ضد إيران، وطلبت من رئاسة باكستان التوسط بين الرياض وطهران، لمفاوضات ثنائية، كما لاحظوا كيف أن الرياض بدأت تتوجه نحو موسكو، في لعبة توازن في العلاقات الدولية.
(4)
إذا كانت أصداء السياسة الأميركية في المنطقة كانت واضحة في رد الفعل في العربية السعودية، فإنها لم تكن أقل وضوحاً في تل أبيب.
إذ كشف نظير مجلي في «الشرق الأوسط» (19/10/2019) أن نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، عبر عن قلق حكومته الشديد من تطورات الأوضاع في شمال سوريا في أعقاب الانسحاب الأميركي والاتفاق مع تركيا على إجلاء الأكراد.
وقال مجلي إن اللقاء الذي جمع نتنياهو ووزير خارجية ترامب، بومبيو، سادته أجواء «بدت قاتمة» إذ عبر كثير من قادة الجيش والمخابرات عن «قلقهم من التطورات في سوريا وتبعاتها على مستقبل المنطقة». وقد أبدوا تخوفهم من أن يؤدي الانسحاب الأميركي إلى «مواجهة حربية بين إسرائيل والمحور الإيراني». كما يرى قادة إسرائيل أنه مع الانسحاب الأميركي، «حل محل الشرطي الإقليمي الأميركي رئيس روسيا(..) فذات يوم من شأنه أن يقرر أنه ملّ أيضاً النشاطات الإسرائيلية ضد إيران في سوريا، فيضع أمام سلاح الجو الإسرائيلي تحديات لم يصطدم بها منذ زمن بعيد».
صحيفة هآرتس (18/10/2019) نقلت على لسان مسؤول إسرائيلي وصفه الخطوة الأميركية في شمال سوريا، بأنها «خيانة للأكراد وأنها ليست موضوعاً محلياً بل فصل مقلق آخر في آثار السياسة الأميركية على التطورات الأميركية».
أما عاموس هرئيل، المحلل العسكري في «هآرتس» فقد علق قائلاً «إن أجندة الرئيس الأميركي تتلخص في جعل الولايات المتحدة صغيرة مرة أخرى وأن انسحابه من الشرق الأوسط يعني منح مفاتيح النفوذ لإيران».
أما المحلل العسكري في موقع «وإلا» الإلكتروني الإسرائيلي، فقد تخوف من «أن تتواصل التغييرات في الشرق الأوسط وإمكانية أن تنفذ الولايات المتحدة انسحابات أخرى (ترغم إسرائيل) كي ترفع حالة التأهب في الأجهزة الأمنية». وبحسبه «فإن هجوم إيران والحوثيين على أرامكو وانسحاب القوات الأميركية من سوريا، وفتح المعبر البري بين العراق وسوريا وحرب تركيا على الأكراد (..) يزيد من احتمالات حصول تغييرات على الحدود» (مع إسرائيل في لبنان، وسوريا، وقطاع غزة) محذراً في الوقت نفسه مما سماه «الجهود الإيرانية في استغلال الأحداث الإقليمية لتغيير موازين القوى وشن هجوم على أهداف إسرائيلية».
(5)
إلى جانب الاهتمام بالمسار الإقليمي لصفقة «ترامب – نتنياهو»، والنكسة التي أصيب بها هذا المسار، في ظل سياسات ترامب المبنية على المفاجآت، في الإقليم، وفي مناطق أخرى من العالم، وفي تغيير مساعديه في البيت الأبيض، وفي الإدارة الأميركية، من الضروري الالتفات إلى الداخل الإسرائيلي.
إسرائيل قلقة من مفاجآت السياسة الأميركية.
إسرائيل ضعفت ثقتها في سياسة ترامب بحيث ارتفعت أصوات عالية تدعو نتنياهو إلى التوقف عن الرهان على «صداقته» مع ترامب.
في إسرائيل دعوات إلى تعزيز القدرات الدفاعية الجوية والصاروخية للجيش بعد حادثة أرامكو، وكيف أن ترامب «ترك السعودية وحيدة».
في جيش إسرائيل دعوات إلى إعادة النظر بالموازنات المخصصة للأجهزة الأمنية، لرفع جاهزية الجيش والأذرع الأمنية الأخرى.
رئيس هيئة الأركان في الجيش الإسرائيلي لا يكف عن إبداء «قلقه من التطورات الإقليمية» التي قد ترفع مستوى «الخطر الأمني على إسرائيل».
وفي إسرائيل أيضاً أزمة سياسية، حيث فشل نتنياهو، في جولة الانتخابات الثانية في تشكيل الحكومة.
تحالف «أزرق – أبيض» يعاني هو الآخر في البحث عن مخرج للأزمة. رئيس الدولة يتخوف من خطورة الذهاب إلى جولة انتخابات ثالثة في أقل من عام.
السؤال: ماهي استراتيجية السلطة الفلسطينية وقيادتها إزاء كل هذه التطورات؟
هل مازالت – يا ترى– تراهن على العودة إلى المفاوضات، «ولا شيء سوى المفاوضات، علنية، كانت أم سرية، ثنائية كانت أم غير ثنائية»؟
أم أنها تملك الإرادة على المراجعة، على غرار المراجعات الكبرى التي تجريها الأطراف الإقليمية في المنطقة، من طهران، إلى الرياض، إلى تل أبيب، القاهرة، إلى وأنقرة.
أم أن الحالة السياسية العليا في الحالة الفلسطينية فقدت الإحساس بالزمان والمكان؟■
أضف تعليق