الانتفاضة اللبنانية.. الطائفية والمذهبية إلى أقبية التاريخ
■ لا مبالغة في القول إن العالم يقف مدهوشاً أمام التطورات المفاجئة والمتسارعة في لبنان، والتي أشعلت شرارتها يوم 17/10/2018 ضريبة الدولارات الستة على نظام التواصل الهاتفي، المسمى «واتساب».
فقد تداعى، ككل مرة، المحتجون للالتقاء في ساحتي الشهداء ورياض الصلح، في قلب مدينة بيروت، لتتحول الدعوة العفوية إلى منعطف تاريخي في مسيرات الحراك الشعبي في لبنان، ضد مظاهر الفساد المالي والإداري وفشل السلطات في إدارة الشأن العام في البلاد.
• فقد لبت النداء فئات اجتماعية من كل الأعمار، شباباً، ورجالاً ونساء، وعجائز حتى على عربات المقعدين، ولم تعد التحركات تقتصر على فئة عمرية دون غيرها. ولعل ظهور الكبار في الاعتصامات أعطى للتحركات وللانتفاضة الشعبية بعداً اجتماعياً أعمق، حيث بدا الأمر أبعد بكثير من ضريبة الواتساب، وهو ما عكسته الشعارات والهتافات والمطالب.
• عمت الاحتجاجات المناطق اللبنانية كافة دون استثناء، في الجنوب، والشمال، والبقاع، والجبل، والعاصمة بيروت، بل تبارت المدن الرئيسية في كثافة حشودها، بشكل لافت للنظر، قدرها المراقبون يوم الاثنين في 20/10/2019، رداً على ورقة الإصلاح الحكومية، بحوالي مليوني لبناني من كل الفئات، وهو رقم كبير، في بلد لا يتجاوز عدد سكانه الخمسة ملايين في أحسن الأحوال، بمن فيهم المغتربون.
سقوط مدوِ للطائفية والمذهبية
• شملت الاحتجاجات الطوائف والمذاهب كافة، دون تمييز بين طائفة، ومذهب، وأسقط الجميع انتماءاتهم الطائفية والمذهبية وإعلام أحزابهم الطائفية والمذهبية ورموزها، وحملوا العلم اللبناني، راية وحيدة تظلل التحركات، في رفض واضح وصريح، وإدانة سافرة وشجاعة لنظام المحاصصة الطائفية. وقد تحدت الكثيرون بشجاعة ضد نظام المحاصصة هذا باعتباره هو أساس المشكلة، وسببها الرئيس، داعين إلى نظام بديل، تحت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» مطالبين بدولة مدنية، دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية.
• عبر المحتجون عن سخطهم على النخب السياسية في الدولة اللبنانية كافة ودون تمييز، ورفعوا شعارات تدعو الجميع إلى الرحيل، وكانت عبارة « كلن – يعني كلن» (أي «كلهم يعني كلهم») عبارة وحدت الجميع، وأسقطت، حسب تقديرات المراقبين، شرعية النظام ومؤسساته، حين دعت هذه الشعارات إلى استقالة رئيس الجمهورية، والحكومة ومجلس النواب، وتشكيل حكومة تكنوقراط، وانتخاب مجلس نواب جديد وفق قانون انتخابات غير طائفي، يقوم على مبدأ الديمقراطية والشفافية ومبدأ المواطنة والعدالة الاجتماعية والمساواة التامة بين المواطنين.
• رغم البعد السياسي الواضح والصريح للتحركات والاعتصامات والاحتجاجات، إلا أن المطالب كانت كلها تندرج في إطار الحاجة اليومية للمواطنين إلى العيش بكرامة وقد تمحورت المطالب على مكافحة البطالة، ووقف الهدر، ومكافحة الفساد، وإنهاء المحسوبية والزبائنية، وتوفير الوظائف وفرض العمل للمواطنين طبقاً للكفاءة، وإنهاء نظام المحاصصة الفاسدة في الوظيفة، وتأمين الكهرباء، والماء، ومعالجة قضايا النفايات، والبنية التحتية المهترئة، وإنهاء الضرائب، وإسترداد المال العام المنهوب على مدى السنوات الماضية، بما في ذلك أرصدة الفاسدين البالغة مليارات الدولارات في المصارف الأجنبية، وإسترداد مشاعات الدولة، والأملاك البحرية، والنهرية، وتطوير نظام التعليم، والجامعة الوطنية، والضمان الإجتماعي، والصحي، وحماية المنتج الوطني ومكافحة التهريب، وفرض الضرائب التصاعدية على الأغنياء، والمصارف، وصون العملة الوطنية.. ولائحة مطولة من المطالب الإضافية ما يؤكد حالة الإنهيار، ومدى الفشل الذي تعانيه الدولة في إدارة الشأن العام، في ظل صراعات فوقية وتناتش بين ديوك الطوائف وذئاب المذاهب على نهب المال العام، مرة باسم الميثاقية، ومرة باسم الحفاظ على روح الطائف، وفي المرتين، التلطي خلف الشارع، وتعبئته طائفياً ومذهبياً، دفاعاً عن مصالح الكبار، على حساب الفقراء والمعدمين والعاطلين عن العمل والواقفين على أبواب المستشفيات؛ كما تؤكد أن النظام السياسي بتركيبته الطائفية والمذهبية بات هو على طاولة التشريح، والبحث عن مستقبله.
النظام.. أزمة خانقة
اعتقد أركان النظام السياسي، بداية أن ما جرى يوم 17/10/2019، هو مجرد فورة غضب، كباقي الفورات، التي تستمر ساعات، ثم يغادر المحتجون ساحات المدن إلى منازلهم، ليعاودوا حياتهم متعايشين مع المستجدات الضريبية ومظاهر الفساد السياسي.
لكن التطورات شكلت صدمة للجميع، وأوصلت لهم رسالة واضحة أن التحركات، هذه المرة، تختلف عن سابقاتها، وأن القضية ليست قضية ستة دولارات تفرض ضريبة على الواتساب، بل تطال مصير البلد كله. لذلك، بدا واضحاً أن الشارع لم يلقِ بالاً لقرار وزير الإتصالات محمد شقير إلغاء الضريبة، والعودة إلى النظام السابق.
ويبدو أن أركان النظام الطائفي والمذهبي، حاولوا ركوب الموجة، والتبروء من المسؤولية عن الأوضاع العامة، ورمي المسؤولية على الآخرين، في إدعاء أنهم هم أصحاب التغيير ودعاته، ومن صناع مشاريع الإصلاح، وأن الأطراف الأخرى، في النظام نفسه، هي من يعطل هذه العملية.
في هذا السياق بادر رئيس التيار الوطني الحر، وزير الخارجية في الحكومة جبران باسيل، إلى عقد لقاء مع رئيس الجمهورية، ثم ومن على منبر القصر الجمهوري، أدلى ببيان حمل فيه، ضمناً، رئيس الحكومة، وأطرافاً أخرى فيها، موالين له، كالقوات اللبنانية، والتقدمي الإشتراكي، مسؤولية تعطيل مسيرة الإصلاح.
رئيس الحكومة سعد الحريري، وبعد صمت، أطل على الرأي العام، ببيان، قال فيه، ما معناه، إن قوى داخل الحكومة، هي من تعطل مشروعه للإصلاح، وأمهل الحريري هذه «القوى» 72 ساعة، إما أن تستجيب لورقته الإصلاحية، وإما سيكون له موقف آخر، ملوحاً بالاستقالة.
من جانبه عقد الحرب التقدمي الاشتراكي مؤتمراً صحفياً، قدم فيه رؤيته الإصلاحية، محملاً «طرفاً مستبداً» في الحكومة (يقصد رئيس الجمهورية ووزير الخارجية) مسؤولية تعطيل الإصلاح المنشود، واتهمه في الوقت نفسه أنه يحاول أن يستولي على أوسع حصة، متلطياً خلف «الميثاقية» ودفاعه عن مصالح المسيحيين في البلاد.
أما حزب القوات اللبنانية، فقد أعلن قناعته أن الحكومة الحالية عاجزة عن إصلاح الشأن العام، فذهب نحو ركوب الموجة حتى آخر مدى، فاستقال وزراؤه من مناصبهم. وقد فسر المراقبون هذه الخطوة أنها تندرج في سياق الصراع الدائر بين «القوات» من جهة و«التيار الوطني» من جهة أخرى على «التمثيل المسيحي» وعلى الإستيلاء على حصة هذا «التمثيل» كما تأتي في سياق الإحتجاج على تهميش وزراء «القوات» في المشاورات التي تدور في القصر الجمهوري، تحت عناوين لجان مختلفة، في إطار توزيع مغانم الدولة، في إطار المحاصصة الطائفية، وحرمانه من «حصة التمثيل المسيحي».
أما حزب الله، فقد أطل أمينه العام حسن نصر الله على المتظاهرين في الشارع، مؤيداً مطالبهم في الإصلاح، لكنه أوضح بلغة واضحة أن الحزب ضد إستقالة الحكومة، وضد رحيل رئيس الجمهورية وضد حل مجلس النواب والدعوة لإنتخابات نيابية مبكرة، ملوحاً بالتدخل، في عبارات خضعت لتفسيرات متباينة من قبل أطراف الساحة اللبنانية.
ردود الفعل من أطراف النظام، أوضحت مدى التباين في الرؤى، والمواقف، ومدى هشاشة الحكومة، وعجزها عن تلبية مطالب الشارع في ثورته الشعبية، وأن أطرافه دون استثناء يعانون أزمة سياسية خائفة، وأن أياً منهم استطاع أن يقدم للشارع وحركته السياسية رداً مقنعاً، بل لاحظ المراقبون أن حجم الإحتجاج أخذ يتسع، وأن شرائح إضافية إجتماعية وعمرية نزلت إلى الشارع، بعد أن اتخذت في الساعات الأربع وعشرين الأولى موقفاً مراقباً. وعندما أيقنت حالة العجز الرسمي عن مداواة الوضع الإجتماعي المأزوم، حسمت أمرها، وباتت الساحات أضيق من أن تتسع لمئات الآلاف من اللبنانيين، في احتجاجهم الصاخب والسلمي في آن.
72 ساعة.. ولا جديد
الاثنتان وسبعون ساعة، التي أمهل رئيس الحكومة شركاءه للوصول إل توافق على «ورقة إصلاحية» تتبناها الدولة، وكانت مسرحاً للتواصل والتشاور واللقاءات الجانبية، البعيدة عن الأضواء، في ظل تصاعد وتنامي في زخم الحركة الشعبية في الشوارع، امتدت هذه المرة إلى مناطق جديدة بحيث لم تعد تستثني أياً من المناطق اللبنانية، بل وصلت أصداؤها إلى بلدان الإغتراب حيث نظم المغتربون اللبنانيون اعتصامات، حملوا فيها الأعلام اللبنانية، وتبنوا شعارات المحتجين ومطالبهم التي باتت مشروعة ومحط اجماع شعبي لبناني.
يوم الأحد في 20/10/2019 كان موعد اللبنانيين مع الإستحقاق الزمني الذي رسمه رئيس الحكومة. إذ انعقدت في ذلك اليوم جلسة استثنائية لمجلس الوزراء حضره رئيس الجمهورية، وانعقد في قصر بعبدا، خرج في ختامها رئيس الحكومة ليدلي ببيان عن «ورقة إصلاحية» تبناها المجتمعون، ستشكل برنامج الحكومة للمرحلة القادمة، استجابة لمطالب المحتجين.
ردود الفعل على «الورقة» كانت متباينة.
• رئيس الحكومة، نفسه، قال معلقاً على الورقة إنها قد لا تقنع المحتجين، وقد لا تستجيب لكل مطالبهم، لكنه دعا إلى اعتبارها خطوة على طريق الإصلاح، متعهداً أمام الرأي العام الإلتزام بها، مشيرة إلى انعدام ثقة الشارع بحكومته وبوعوده فبدا رئيس الحكومة وكأنه هو نفسه غير مقتنع بالورقة وبما جاء فيها.
• حزب القوات اللبنانية الذي استقال وزراءه، سخر من «الورقة الإصلاحية» ودعا رئيس الحكومة إلى الإستقالة، وتشكيل حكومة جديدة، متحررة من «استبداد» التيار الوطني، ورئيس الجمهورية، مؤكداً في السياق نفسه أن الحكومة الحالية عاجزة عن تنفيذ ما جاء في «الورقة»، وفق المبدأ القائل إن «الإصلاح يحتاج إلى مصلحين وليس إلى فاسدين».
• الحزب التقدمي الإشتراكي عقد مؤتمراً صحفياً، كشف فيه للرأي العام أن الورقة الحكومية لا تمثل وجهة نظره، وأنه قدم ورقة بديلة، لكن «الطرف المستبد» في الحكومة رفضها، واتهم وزراء التيار الوطني أنهم عطلوا الكثير من الخطوات الإصلاحية. كما أكد الحزب أن وزراءه لن يستقيلوا من الحكومة وأنهم سوف يخوضون معركة الإصلاح من داخل الحكومة.
• ساحات الإنتفاضة الشعبية، رفضت بالإجماع «ورقة الحكومة»، وكان ردها المزيد من الحشد الشعبي والجماهيري في كل مكان، حتى إن المراقبين المحايدين قدروا الحشود بحوالي مليوني مواطن لبنان، من أقصى الشمال في عكار، إلى أقصى الجنوب في صور والنبطية، وفي البقاع، والهرمل شرقاً، وفي البترون وذوق مكايل، وفي بعقلين وعالية في الجبل والشوف وبرجا في إقليم التفاح.
المراقبون: إرضاء الشارع أم المانحين؟
لعل أهم ما قاله المراقبون إن «ورقة الإصلاح» الحكومية، لم تكن تخاطب الشارع اللبناني في احتجاجه على سياسات الفساد والهدر والزبائنية والطائفية والمذهبية، بل كانت تخاطب بشكل رئيسي وخاص المانحين الأوروبيين أطراف «مؤتمر سيدر» كما تخاطب صندوق النقد الدولي. وأن كافة الوعود لم تتطرق إطلاقاً إلى الخدمات الأساسية ولا إلى إصلاح أس النظام الطائفي، بل هي حملت وعوداً، تكرر التزامات الدولة اللبنانية نحو الجهات المانحة، مقابل القروض الموعودة بها، ومنها قرض العشرة مليارات يورو من «مؤتمر سيدر».
كما قال المراقبون إن الإنذار الذي وجه الحريري لشركائه في الحكومة لم يكن هدفه الوصول إلى حلول تبتغي إرضاء الشارع، بل هدفه الوصول إلى إرغام حلفائه على القبول بالورقة التي تعهد بها للمانحين في زياراته إلى الولايات المتحدة وباريس وغيرها من الدول. وبالتالي، لم تمس الورقة لا طابع النظام السياسي، ولا آليات عمله، ولم تقدم أية ضمانات حقيقية سوى مجرد وعود، كان أركان النظام يأملون أن تلعب دوراً ما في صنع تباينات في الموقف بين الشرائح المحتجة، وبحيث يستطيع أطراف النظام «اختراق» الرأي العام، عبر محازبيهم، لركوب الموجة، والانحراف بها نحو الهدوء، بذريعة منح الحكومة فرصة جديدة.
لكن، وكما يبدو وحتى كتابة هذه الكلمات، فجر يوم الأربعاء في 23/10/2019 فإن الشارع مازال على موقفه بل أخذ يتجه نحو التصعيد في دعواته للعصيان المدني، إلى أن يستقيل أركان النظام، لصالح حكومة تكنوقراط، خارج المحاصصة الطائفية والمذهبية تتولى إدارة البلاد لمرحلة انتقالية، بهدف بناء أسس جديدة لنظام جديد ديمقراطي، بعيداً عن المحاصصة المذهبية والطائفية، عمل برنامجاً للإصلاح تطبيقاً لمبادئ العدالة الاجتماعية. ■
فقد تداعى، ككل مرة، المحتجون للالتقاء في ساحتي الشهداء ورياض الصلح، في قلب مدينة بيروت، لتتحول الدعوة العفوية إلى منعطف تاريخي في مسيرات الحراك الشعبي في لبنان، ضد مظاهر الفساد المالي والإداري وفشل السلطات في إدارة الشأن العام في البلاد.
• فقد لبت النداء فئات اجتماعية من كل الأعمار، شباباً، ورجالاً ونساء، وعجائز حتى على عربات المقعدين، ولم تعد التحركات تقتصر على فئة عمرية دون غيرها. ولعل ظهور الكبار في الاعتصامات أعطى للتحركات وللانتفاضة الشعبية بعداً اجتماعياً أعمق، حيث بدا الأمر أبعد بكثير من ضريبة الواتساب، وهو ما عكسته الشعارات والهتافات والمطالب.
• عمت الاحتجاجات المناطق اللبنانية كافة دون استثناء، في الجنوب، والشمال، والبقاع، والجبل، والعاصمة بيروت، بل تبارت المدن الرئيسية في كثافة حشودها، بشكل لافت للنظر، قدرها المراقبون يوم الاثنين في 20/10/2019، رداً على ورقة الإصلاح الحكومية، بحوالي مليوني لبناني من كل الفئات، وهو رقم كبير، في بلد لا يتجاوز عدد سكانه الخمسة ملايين في أحسن الأحوال، بمن فيهم المغتربون.
سقوط مدوِ للطائفية والمذهبية
• شملت الاحتجاجات الطوائف والمذاهب كافة، دون تمييز بين طائفة، ومذهب، وأسقط الجميع انتماءاتهم الطائفية والمذهبية وإعلام أحزابهم الطائفية والمذهبية ورموزها، وحملوا العلم اللبناني، راية وحيدة تظلل التحركات، في رفض واضح وصريح، وإدانة سافرة وشجاعة لنظام المحاصصة الطائفية. وقد تحدت الكثيرون بشجاعة ضد نظام المحاصصة هذا باعتباره هو أساس المشكلة، وسببها الرئيس، داعين إلى نظام بديل، تحت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» مطالبين بدولة مدنية، دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية.
• عبر المحتجون عن سخطهم على النخب السياسية في الدولة اللبنانية كافة ودون تمييز، ورفعوا شعارات تدعو الجميع إلى الرحيل، وكانت عبارة « كلن – يعني كلن» (أي «كلهم يعني كلهم») عبارة وحدت الجميع، وأسقطت، حسب تقديرات المراقبين، شرعية النظام ومؤسساته، حين دعت هذه الشعارات إلى استقالة رئيس الجمهورية، والحكومة ومجلس النواب، وتشكيل حكومة تكنوقراط، وانتخاب مجلس نواب جديد وفق قانون انتخابات غير طائفي، يقوم على مبدأ الديمقراطية والشفافية ومبدأ المواطنة والعدالة الاجتماعية والمساواة التامة بين المواطنين.
• رغم البعد السياسي الواضح والصريح للتحركات والاعتصامات والاحتجاجات، إلا أن المطالب كانت كلها تندرج في إطار الحاجة اليومية للمواطنين إلى العيش بكرامة وقد تمحورت المطالب على مكافحة البطالة، ووقف الهدر، ومكافحة الفساد، وإنهاء المحسوبية والزبائنية، وتوفير الوظائف وفرض العمل للمواطنين طبقاً للكفاءة، وإنهاء نظام المحاصصة الفاسدة في الوظيفة، وتأمين الكهرباء، والماء، ومعالجة قضايا النفايات، والبنية التحتية المهترئة، وإنهاء الضرائب، وإسترداد المال العام المنهوب على مدى السنوات الماضية، بما في ذلك أرصدة الفاسدين البالغة مليارات الدولارات في المصارف الأجنبية، وإسترداد مشاعات الدولة، والأملاك البحرية، والنهرية، وتطوير نظام التعليم، والجامعة الوطنية، والضمان الإجتماعي، والصحي، وحماية المنتج الوطني ومكافحة التهريب، وفرض الضرائب التصاعدية على الأغنياء، والمصارف، وصون العملة الوطنية.. ولائحة مطولة من المطالب الإضافية ما يؤكد حالة الإنهيار، ومدى الفشل الذي تعانيه الدولة في إدارة الشأن العام، في ظل صراعات فوقية وتناتش بين ديوك الطوائف وذئاب المذاهب على نهب المال العام، مرة باسم الميثاقية، ومرة باسم الحفاظ على روح الطائف، وفي المرتين، التلطي خلف الشارع، وتعبئته طائفياً ومذهبياً، دفاعاً عن مصالح الكبار، على حساب الفقراء والمعدمين والعاطلين عن العمل والواقفين على أبواب المستشفيات؛ كما تؤكد أن النظام السياسي بتركيبته الطائفية والمذهبية بات هو على طاولة التشريح، والبحث عن مستقبله.
النظام.. أزمة خانقة
اعتقد أركان النظام السياسي، بداية أن ما جرى يوم 17/10/2019، هو مجرد فورة غضب، كباقي الفورات، التي تستمر ساعات، ثم يغادر المحتجون ساحات المدن إلى منازلهم، ليعاودوا حياتهم متعايشين مع المستجدات الضريبية ومظاهر الفساد السياسي.
لكن التطورات شكلت صدمة للجميع، وأوصلت لهم رسالة واضحة أن التحركات، هذه المرة، تختلف عن سابقاتها، وأن القضية ليست قضية ستة دولارات تفرض ضريبة على الواتساب، بل تطال مصير البلد كله. لذلك، بدا واضحاً أن الشارع لم يلقِ بالاً لقرار وزير الإتصالات محمد شقير إلغاء الضريبة، والعودة إلى النظام السابق.
ويبدو أن أركان النظام الطائفي والمذهبي، حاولوا ركوب الموجة، والتبروء من المسؤولية عن الأوضاع العامة، ورمي المسؤولية على الآخرين، في إدعاء أنهم هم أصحاب التغيير ودعاته، ومن صناع مشاريع الإصلاح، وأن الأطراف الأخرى، في النظام نفسه، هي من يعطل هذه العملية.
في هذا السياق بادر رئيس التيار الوطني الحر، وزير الخارجية في الحكومة جبران باسيل، إلى عقد لقاء مع رئيس الجمهورية، ثم ومن على منبر القصر الجمهوري، أدلى ببيان حمل فيه، ضمناً، رئيس الحكومة، وأطرافاً أخرى فيها، موالين له، كالقوات اللبنانية، والتقدمي الإشتراكي، مسؤولية تعطيل مسيرة الإصلاح.
رئيس الحكومة سعد الحريري، وبعد صمت، أطل على الرأي العام، ببيان، قال فيه، ما معناه، إن قوى داخل الحكومة، هي من تعطل مشروعه للإصلاح، وأمهل الحريري هذه «القوى» 72 ساعة، إما أن تستجيب لورقته الإصلاحية، وإما سيكون له موقف آخر، ملوحاً بالاستقالة.
من جانبه عقد الحرب التقدمي الاشتراكي مؤتمراً صحفياً، قدم فيه رؤيته الإصلاحية، محملاً «طرفاً مستبداً» في الحكومة (يقصد رئيس الجمهورية ووزير الخارجية) مسؤولية تعطيل الإصلاح المنشود، واتهمه في الوقت نفسه أنه يحاول أن يستولي على أوسع حصة، متلطياً خلف «الميثاقية» ودفاعه عن مصالح المسيحيين في البلاد.
أما حزب القوات اللبنانية، فقد أعلن قناعته أن الحكومة الحالية عاجزة عن إصلاح الشأن العام، فذهب نحو ركوب الموجة حتى آخر مدى، فاستقال وزراؤه من مناصبهم. وقد فسر المراقبون هذه الخطوة أنها تندرج في سياق الصراع الدائر بين «القوات» من جهة و«التيار الوطني» من جهة أخرى على «التمثيل المسيحي» وعلى الإستيلاء على حصة هذا «التمثيل» كما تأتي في سياق الإحتجاج على تهميش وزراء «القوات» في المشاورات التي تدور في القصر الجمهوري، تحت عناوين لجان مختلفة، في إطار توزيع مغانم الدولة، في إطار المحاصصة الطائفية، وحرمانه من «حصة التمثيل المسيحي».
أما حزب الله، فقد أطل أمينه العام حسن نصر الله على المتظاهرين في الشارع، مؤيداً مطالبهم في الإصلاح، لكنه أوضح بلغة واضحة أن الحزب ضد إستقالة الحكومة، وضد رحيل رئيس الجمهورية وضد حل مجلس النواب والدعوة لإنتخابات نيابية مبكرة، ملوحاً بالتدخل، في عبارات خضعت لتفسيرات متباينة من قبل أطراف الساحة اللبنانية.
ردود الفعل من أطراف النظام، أوضحت مدى التباين في الرؤى، والمواقف، ومدى هشاشة الحكومة، وعجزها عن تلبية مطالب الشارع في ثورته الشعبية، وأن أطرافه دون استثناء يعانون أزمة سياسية خائفة، وأن أياً منهم استطاع أن يقدم للشارع وحركته السياسية رداً مقنعاً، بل لاحظ المراقبون أن حجم الإحتجاج أخذ يتسع، وأن شرائح إضافية إجتماعية وعمرية نزلت إلى الشارع، بعد أن اتخذت في الساعات الأربع وعشرين الأولى موقفاً مراقباً. وعندما أيقنت حالة العجز الرسمي عن مداواة الوضع الإجتماعي المأزوم، حسمت أمرها، وباتت الساحات أضيق من أن تتسع لمئات الآلاف من اللبنانيين، في احتجاجهم الصاخب والسلمي في آن.
72 ساعة.. ولا جديد
الاثنتان وسبعون ساعة، التي أمهل رئيس الحكومة شركاءه للوصول إل توافق على «ورقة إصلاحية» تتبناها الدولة، وكانت مسرحاً للتواصل والتشاور واللقاءات الجانبية، البعيدة عن الأضواء، في ظل تصاعد وتنامي في زخم الحركة الشعبية في الشوارع، امتدت هذه المرة إلى مناطق جديدة بحيث لم تعد تستثني أياً من المناطق اللبنانية، بل وصلت أصداؤها إلى بلدان الإغتراب حيث نظم المغتربون اللبنانيون اعتصامات، حملوا فيها الأعلام اللبنانية، وتبنوا شعارات المحتجين ومطالبهم التي باتت مشروعة ومحط اجماع شعبي لبناني.
يوم الأحد في 20/10/2019 كان موعد اللبنانيين مع الإستحقاق الزمني الذي رسمه رئيس الحكومة. إذ انعقدت في ذلك اليوم جلسة استثنائية لمجلس الوزراء حضره رئيس الجمهورية، وانعقد في قصر بعبدا، خرج في ختامها رئيس الحكومة ليدلي ببيان عن «ورقة إصلاحية» تبناها المجتمعون، ستشكل برنامج الحكومة للمرحلة القادمة، استجابة لمطالب المحتجين.
ردود الفعل على «الورقة» كانت متباينة.
• رئيس الحكومة، نفسه، قال معلقاً على الورقة إنها قد لا تقنع المحتجين، وقد لا تستجيب لكل مطالبهم، لكنه دعا إلى اعتبارها خطوة على طريق الإصلاح، متعهداً أمام الرأي العام الإلتزام بها، مشيرة إلى انعدام ثقة الشارع بحكومته وبوعوده فبدا رئيس الحكومة وكأنه هو نفسه غير مقتنع بالورقة وبما جاء فيها.
• حزب القوات اللبنانية الذي استقال وزراءه، سخر من «الورقة الإصلاحية» ودعا رئيس الحكومة إلى الإستقالة، وتشكيل حكومة جديدة، متحررة من «استبداد» التيار الوطني، ورئيس الجمهورية، مؤكداً في السياق نفسه أن الحكومة الحالية عاجزة عن تنفيذ ما جاء في «الورقة»، وفق المبدأ القائل إن «الإصلاح يحتاج إلى مصلحين وليس إلى فاسدين».
• الحزب التقدمي الإشتراكي عقد مؤتمراً صحفياً، كشف فيه للرأي العام أن الورقة الحكومية لا تمثل وجهة نظره، وأنه قدم ورقة بديلة، لكن «الطرف المستبد» في الحكومة رفضها، واتهم وزراء التيار الوطني أنهم عطلوا الكثير من الخطوات الإصلاحية. كما أكد الحزب أن وزراءه لن يستقيلوا من الحكومة وأنهم سوف يخوضون معركة الإصلاح من داخل الحكومة.
• ساحات الإنتفاضة الشعبية، رفضت بالإجماع «ورقة الحكومة»، وكان ردها المزيد من الحشد الشعبي والجماهيري في كل مكان، حتى إن المراقبين المحايدين قدروا الحشود بحوالي مليوني مواطن لبنان، من أقصى الشمال في عكار، إلى أقصى الجنوب في صور والنبطية، وفي البقاع، والهرمل شرقاً، وفي البترون وذوق مكايل، وفي بعقلين وعالية في الجبل والشوف وبرجا في إقليم التفاح.
المراقبون: إرضاء الشارع أم المانحين؟
لعل أهم ما قاله المراقبون إن «ورقة الإصلاح» الحكومية، لم تكن تخاطب الشارع اللبناني في احتجاجه على سياسات الفساد والهدر والزبائنية والطائفية والمذهبية، بل كانت تخاطب بشكل رئيسي وخاص المانحين الأوروبيين أطراف «مؤتمر سيدر» كما تخاطب صندوق النقد الدولي. وأن كافة الوعود لم تتطرق إطلاقاً إلى الخدمات الأساسية ولا إلى إصلاح أس النظام الطائفي، بل هي حملت وعوداً، تكرر التزامات الدولة اللبنانية نحو الجهات المانحة، مقابل القروض الموعودة بها، ومنها قرض العشرة مليارات يورو من «مؤتمر سيدر».
كما قال المراقبون إن الإنذار الذي وجه الحريري لشركائه في الحكومة لم يكن هدفه الوصول إلى حلول تبتغي إرضاء الشارع، بل هدفه الوصول إلى إرغام حلفائه على القبول بالورقة التي تعهد بها للمانحين في زياراته إلى الولايات المتحدة وباريس وغيرها من الدول. وبالتالي، لم تمس الورقة لا طابع النظام السياسي، ولا آليات عمله، ولم تقدم أية ضمانات حقيقية سوى مجرد وعود، كان أركان النظام يأملون أن تلعب دوراً ما في صنع تباينات في الموقف بين الشرائح المحتجة، وبحيث يستطيع أطراف النظام «اختراق» الرأي العام، عبر محازبيهم، لركوب الموجة، والانحراف بها نحو الهدوء، بذريعة منح الحكومة فرصة جديدة.
لكن، وكما يبدو وحتى كتابة هذه الكلمات، فجر يوم الأربعاء في 23/10/2019 فإن الشارع مازال على موقفه بل أخذ يتجه نحو التصعيد في دعواته للعصيان المدني، إلى أن يستقيل أركان النظام، لصالح حكومة تكنوقراط، خارج المحاصصة الطائفية والمذهبية تتولى إدارة البلاد لمرحلة انتقالية، بهدف بناء أسس جديدة لنظام جديد ديمقراطي، بعيداً عن المحاصصة المذهبية والطائفية، عمل برنامجاً للإصلاح تطبيقاً لمبادئ العدالة الاجتماعية. ■
أضف تعليق