26 كانون الأول 2024 الساعة 11:40

عن القهوة في الجزائر.... وماركس الذي ضحّى بلحيته في القصبة!

2019-08-06 عدد القراءات : 978

الجزائر (الاتجاه الديمقراطي)

لا يمكن الحديث عن تاريخ القهوة في الجزائر من دون أن نجد أنفسنا نغوص في خلفيةٍ سوسيو- ثقافية لموضوعاتٍ ذات علاقة بالمجتمع والدولة والدين. وإن ارتبط ظهورها في العالم، كزراعةٍ، حسب جلّ الباحثين، في اليمن وإثيوبيا، فإنّ بداية انتشارها في العالم المُتوسِّطي (الأوروبي) كانت من خلال مركز الامبراطورية العثمانية، بداية في إسطنبول في نهاية القرن 15م، ثم إلى باقي مدن وحواضِر الإمبراطورية في المشرق (حلب ودمشق وبغداد) والحجاز، ومصر في النصف الأول من القرن 16م.
ومع دخول منطقة المغرب (عدا المغرب الأقصى)، في نفس الفترة تقريباً، إلى المجال العثماني في سياق الصراع مع القوى الإيبيرية الصاعِدة التي أنهت الوجود العربي-الإسلامي في الأندلس، بدأت حواضِر المغرب: الجزائر وقسنطينة وتونس وطرابلس، ثم الأرياف لاحقاً، تكتشف القهوة على غرار نظيراتها في المشرق، فكيف انتشرت في الجزائر خصوصاً؟

القهوة في السياق التاريخي العام: تشكُّل "الكيانية الجزائرية"
مقهى موري 1880
مقهى موري 1880

في العقد الأول من القرن 16م، دخل الإخوة بربروس، الذين كانوا يجوبون البحر المتوسّط، يترصّدون غنائم سفن الأعداء الأوروبيين، على خط الصراع المستمر في غرب المتوسّط بين بلاد المغرب و"المسيحية الصاعِدة" في غرب أوروبا، بعد هزائم مُتتالية للمسلمين الأندلسيين والمغاربة، لم تُنهِ وجودهم في الأندلس فحسب، بل أفقدتهم السيطرة على مدنهم الساحلية من سبتة ومليلية غرباً، إلى تونس وطرابلس شرقاً، مروراً بوهران وتْنَس وبِجَايَة وجِيجَل وعنّابة في الوسط.

 تمكّن الإخوة بربروس من توحيد شتات البلاد ضمن كيانٍ مركزي، تمتّع باستقلاليةٍ كبيرةٍ في ظلّ علاقة تحالف وبيعة للباب العالي في إسطنبول، بعد أن جعلوا من مدينة الجزائر عاصمة له. كيان شكَّل لقرنين مُتتالين من الزمن، رأس حربة في سياق الصراع مع القوى الأوروبية التوسّعية. لا شكّ أنّ العثمانيين استمدُّوا شرعيتهم، في المغرب الأوسط، الذي أضحى يُسمَّى منذ تلك الفترة "إيالة الجزائر"، من جهادهم لتحرير الثغور المُحتلة من الإسبان ومن جهادهم البحري ضد السفن الأوروبية.

لكن تلك الشرعية ما كانت لتتجسَّد، لولا الغطاء الذي وفَّره "الأولياء" أو "الصُلَحَاء"، من شيوخ وقادة الطُرُق الصوفية الذين ضاقوا ذرعاً بتخاذُلِ السلالات المحلية الحاكِمة أمام التوسّع الإسباني، للحُكم الجديد، الذي أرسى قواعده على تحالفٍ متينٍ بين النازحين الأندلسيين الذين استقرّوا في المدن، وبين القبائل العربية والبربرية المُقاتِلة في البوادي والأرياف، والمرجعية الدينية الصوفية، أساسه الصراع مع القوى الأوروبية.

لقد ألقى التداخُل بين عناصر هذا التحالف، بظلاله على الموسيقى والطبخ والعمران وعلى الطبائع والعادات الإجتماعية، ومنها شرب القهوة. لذا فلا غَرابة أن يعود أقدم نصّ يتحدَّث عن القهوة في الجزائر، إلى كتاب "تاريخ بلاد البربر وقراصنته" في القرن 17م، الذي يؤرِّخ لذروة ذلك الصِراع البحري (القرصَنة) الدائِر بين دول شمال إفريقيا (وعلى رأسها الجزائر أو جمهورية المغازي كما كان يُطلَق عليها آنذاك) وبين أوروبا الغربية، كتبه الأب بيار دان. ويبدو حسب شهادة بيار دان، أن سكان مدينة الجزائر، كانوا يشربون القهوة منذ القرن 16م، في الساحات أو في الطُرُقات العامة، ولم يكن بعد في فضاء مُخصَّص لهذا "الطقس" الذي أصبح يُعرَف في ما بعد، في كتابات المؤرّخين والرحَّالة الأوروبيين بالمقهى الموري café maure  بمُمَيِّزَاتِه العُمرانية الأندلسية (شكل الزليج، الأقواس..).

والمور هنا تُحيل، في الأدبيات الغربية، إلى الأندلسيين المسلمين أو إلى المغاربة أحياناً. كما تدفع بنا بعض المؤشِّرات (مثل شهادات بعض الرحَّالة المغاربة) إلى أن نستنتج أنه حتى أواخر القرن 17م، لم تكن القهوة أو "المقاهي المورية" مُنتشرة سوى في المناطق الساحلية أو الريفية الشمالية ذات الحضور الواضِح للإدارة المركزية المُمثّلة في "قبائل المخزن" المُقاتِلة والموالية للحُكم المركزي في الجزائر، أو في الجيش (إنكشارية أو ريّاس البحر).

لكن القهوة تغيب تماماً في المناطق النائية والصحراوية، التي عرفت الشاي الذي انتقل إليها من المغرب الأقصى وفق مسارٍ تاريخيٍ آخر، لا يتّسع المجال هنا لتفصيله (دخل الشاي أو "لاتاي" باللسان الدارِج، إلى المغرب الأقصى في العقود الأخيرة من القرن 17م عن طريق الإنكليز، وكان في بداية الأمر حكْراً على البلاط المَلَكي).

وبقي التنافُس بين الشاي والقهوة يُحيل إلى الاختلافات الجغرافية (شمال/جنوب) أحياناً، وإلى الفوارِق الاجتماعية المُتعلّقة بنمط المعاش (حَضَر/ريف) أحياناً أخرى.

تنافس تجسَّد في الثقافة الشعبية في صوَر أمثالٍ متوارثة، أو في قصائد الشعر الملحون، كما في قصيدة "القهوة ولاتاي" التي تحوَّلت إلى إحدى أشهر الأغاني الشعبية في الجزائر، لصاحبها المدني التركماني المغربي التي يصف فيها وقوف القهوة والشاي أمام القاضي يُرافِع كل منهما عن نفسه، فيقول في مطلعها: "القَهْوَة ولاَتَاي يا الفَاهْم، دخلوا مدّعيين للقَاضِي جَاوْ صْبَاح.. قَالُولٌو يا حَاكِم القَضَا، تحكم بيناتنا ولا تعمل حيلة".

إلا أن القهوة لم تعد مشروباً خاصَّاً بأهل المدن، بل انتقلت إلى كل الأرياف والبوادي الجزائرية وتحوَّلت إلى مشروبٍ شعبي، وقد لعبت الطُرُق الصوفية، الدور الأكبر في هذا الانتشار الواسِع، فما هي العلاقة بين انتشار شرب القهوة وحركة التصوّف؟
الشاذلية أو القهوة كمشروب صوفي
مقهى موري بالقرب من حديقة التجارب 1880
مقهى موري بالقرب من حديقة التجارب 1880

كما ذكرنا سابقاً استثمر المُتصوّفة مكانتهم الاجتماعية والدينية، لتعبئة الفئات الاجتماعية الشعبية (القبائل)، من خلال مؤسّسة الزوايا الثقافية والتعليمية، لتوفير الشرعية السياسية والدينية المطلوبة للحُكم الجديد ولمشروعه التوحيدي والجهادي في الجزائر.

انبثقت غالبية تلك الطُرُق عن الطريقة الشاذليّة، وساهمت شخصية القطب الصوفي أحمد بن يوسف الملياني في ترسيخ الحُكم المركزي الجديد من جهة، وفي توسيع دائرة انتشار هذه الطريقة في الأرياف والبوادي، كما في المدن والحواضِر، وزيادة نفوذها بتضاعُف أعداد مُريديها من جهةٍ ثانية. هكذا تحوَّلت هذه الطريقة، بجميع تفرّعاتها، إلى التمظُهر، الوحيد تقريباً، للإسلام الشعبي الجزائري.

وقد ساعد الجانب الاجتماعي الذي كرَّسه أبو الحسن الشاذلي (1196-1258م) الأب المؤسِّس للطريقة (وُلِدَ في شمال المغرب الأقصى، أي تتلمذ على يد عبد السلام بن مُشِيشْ الذي أخذ بدوره عن القطب الصوفي الأندلسي الشهير أبي مدين الغوث، دفين تلمسان في الجزائر، سكن بلدة شاذلة في تونس الحالية وأصبح يُنسَب إليها)، في تهيئة الأرضية لذلك الانتشار.

ذلك أن الطريقة الشاذليّة باعتبارها التجسيد الفعلي للانتقال من التصوّف كحركةٍ فكريةٍ/فلسفيةٍ إلى حركةٍ منظّمةٍ ذات تراتبية مؤسّسية معينة وبُعدٍ اجتماعي وسياسي، ليتحوَّل شُرب القهوة إلى جزءٍ أصيلٍ في المنظومة الطقوسية الشاذليّة ترتبط بحلقات الذِكر والابتهال أو بالخلوة الربّانية (كانت القهوة تساعد المُريدين على السهر بغية العبادة والصلاة)، إلى أن اقترنت بها، بل وأخذت إسمها في بعض المناطق، فقيل: "شرب الشاذليّة".

لم يستسغ الفُقهاء انتشار القهوة وارتباطها بالطقوس الصوفية، فأدرجها الكثير منهم في خانة المشروبات المُحرَّمة، وساقوا في ذلك الأدلَّة التي تدخلها في إطار المُسْكِرات، ولعلّ بعضهم خلط ذلك بمفهوم "السُّكْر الصوفي" ذي الدلالة الخاصة في قاموس المتصوّفة. لكنه يظلّ مُجرَّد حلقة من حلقات الصراع التقليدي في التاريخ الإسلامي في المشرق والمغرب، بين المتصوّفة والفقهاء.
كارل ماركس والمقهى الموري في الجزائر
كارل ماركس باللحية ومن دونها
كارل ماركس باللحية ومن دونها

في نهاية حياة الفيلسوف الألماني كارل ماركس نصَحه الأطباء بقضاء فترة نقاهة في الجزائر، بعد تعرّضه لأمراضٍ أنهكت صحته.
وصل ماركس إلى مدينة الجزائر في العشرين من شهر شباط/فبراير 1882 ليُقيم فيها حوالى ثلاثة أشهر. نزل أولاً في فندق الشرق الكبير (يقع حالياً بين البريد المركزي وفندق السفير)، ثم انتقل بعدها إلى فندقٍ أرخص منه ثمناً في أعالي المدينة (شارع محمّد الخامس حالياً)، ما مكَّنه من التمتّع بمناظر جميلة وصفها بدقّة في رسائل إلى أقاربه.

وفي زيارةٍ له إلى حديقة الحامّة المعروفة بحديقة التجارب، لمح "مقهى موريا/مغربيا" في حيِّ الآغا القريب منها، فجلس فيه ليحتسي فنجاناً من "القهوة الشاذليّة".

كتب ماركس في إحدى رسائله إلى إبنته لورا لافارغlaura lafargue، واصِفاً المشهد: "قبل الدخول إلى حديقة التجارب، شربنا القهوة في الهواء الطَلق، في مقهى موري/مغربي، الموري يُحضِّر قهوة ممتازة، كنا جالسين على كراسٍ، أمام طاولة من الخشب، في حضور مجموعة من الزبائن المور(الجزائريين). يرتشف كل واحد منهم قهوته من إبريق صغير خاص به، وهم يلعبون الوَرَق... كان المشهد رائِعاً....".

في هذه الرسالة يصف ماركس بإسهابٍ لباس زبائن المقهى الجزائريين أو المور كما يُسمِّيهم، ويخلص إلى بعض الاستنتاجات من وحي ملاحظاته تلك.
غير بعيد من ذلك المكان التقط له المُصوِّر دوتيرتر  E. Dutertre صورته بلحيته الكثيفة التي يعرفه العالم بها، في صباح الغد المُوالي كتب ماركس لفريديرك إنجلز (28 نيسان/أبريل 1882م): "بسبب الشمس، تخلّصت من لحيتي، لكن وبما أن بناتي يُفضلنني بها، فقد أخذت صورة قبل أن أُضحِّي بها على مذبح حلاَّقٍ جزائري"، كان ذلك الحلاَّق في حيّ القصبة الشهير.

أضف تعليق