ماذا عن مواجهة مخرجات ورشة البحرين ؟
(1)
■ انفضت ورشة البحرين الاقتصادية، وفشل عرابها جاريد كوشنر في جر الفلسطينيين إلى ارتكاب جرم المشاركة فيها. لكنها، في الوقت نفسه، حققت أهدافاً إقليمية، جعلت من العلاقات الإسرائيلية مع بعض الأنظمة العربية علنية ورسمية، ولم تعد موضع شك في انتهاك فظ وفاقع لمبادرة السلام العربية.
لكن ما يجب التأكيد عليه، في هذا المجال، وقد سبقنا إلى ذلك بعض المراقبين، أن الورشة لم تكن مجرد حدث، وقع و انقضى. بل هي في الحقيقة فصل في مشروع سياسي، لحل وتصفية المسألة الفلسطينية، أطلق عليه اسم «صفقة القرن»، أطلقنا عليها اسم «صفقة ترامب – نتنياهو». أما كوشنر، الذي يرى في نفسه الحكيم المتمتع بكل القدرات الخارقة، والقادم إلينا بالحلول السحرية، فقد أطلق عليها اسم «فرصة القرن»، في لغة واضحة، تحمل تهديداً للفلسطينيين، «إما أن تستفيدوا من هذه الفرصة وتغتنموها، وإما ستفوتكم الفرصة إلى الأبد».
قَبِلَ الفلسطينيون التحدي، ورفضوا «الفرصة»، ليس لأنهم عدميون، بل لأن هذه «الفرصة» هي إسرائيلية – أمريكية بامتياز، لدفن القضة والحقوق الوطنية الفلسطينية في جنازة إقليمية مهيبة، ترتفع كلفتها إلى 50 مليار دولار، يكون فيها أصحاب القضية شهود الزور الأوائل. ولأن الولايات المتحدة، وإسرائيل ومن معهما، لن يجدوا فلسطينياً واحد، يقبل أن يكون شاهد زور على تصفية القضية والحقوق في حفل اقتصادي ماجن، اضطر كوشنر للاعتراف أن الشق الاقتصادي يحتاج بالضرورة إلى الحل السياسي ليأخذ مداه، وأنه دون حل سياسي للقضية سيبقى العمل ناقصاً.
(2)
ما قاله كوشنر، تأكيد إضافي على صحة الرأي القائل إن ورشة البحرين ليست مجرد حدث عابر، يمكن التصدي له في معركة محدودة الأجل، ثم نذهب بعدها لنرتاح. هي فصل في معركة التصدي لصفقة ترامب – نتنياهو. وقد وعد كوشنر أنه سيكشف عن عناصر جديدة للصفقة، مبتدئاً بوكالة الغوث معتبراً المال المرصود لها هدراً للملايين والإجدى أن تتحول أموال الوكالة لصالح مشاريع ورشة البحرين.
هكذا يكون كوشنر قد أعادنا إلى جذر المسألة التي تقول إن ورشة البحرين تقوم على مبدأ تجريد الفلسطينيين من حقوقهم، أبرزها حق اللاجئين في العودة إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها منذ العام 1948. لم يعد سراً القول إن كوشنر صارح الدول العربية الموعودة بمال ورشة البحرين، أن عليها، مقابل هذا المال، أن تشارك في توفير الظروف والمكان، والآليات والأدوات الضرورية لتوطين اللاجئين الفلسطينيين، وأن الولايات المتحدة، والتي تتحدث كثيراً عن الازدهار والسلام، ليس لديها ما تقدمه لأحد مجاناً، فلكل سلعة ثمنها، والصفقة تقوم على تسليع القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية، وحلها عبر سلسلة من الصفقات المتبادلة.
لعل تصريح كوشنر هو أحد مخرجات ورشة البحرين، وأحد نتائج ترسيم العلاقات بين إسرائيل وبعض الأنظمة العربية وعلى مبدأ يقول «الاعتراف بإسرائيل اليهودية كأمر واقع»، وحل قضية اللاجئين بما يضمن لإسرائيل «يهوديتها»، الاعتراف بإسرائيل كدولة في الشرق الأوسط بات أمراً واقعاً. والاعتراف بأن اللجوء بات هو الآخر أمراً واقعاً يجب الإقرار به كحل دائم لقضية اللاجئين. وأن تقوم على مبدأ الحل البديل للعودة، ويتراوح بين التوطين في مكان الإقامة، أو التهجير، على شاكلة ما تشهده أوضاع اللاجئين في لبنان، في ظل حصار أمني وسياسي واجتماعي واقتصادي، يتعرض له اللاجئون الفلسطينيون المقيمون فيه.
(3)
مما لا شك فيه أن القيادة الرسمية التي بيدها زمام القرار، حصدت النتائج الإيجابية لموقفها في رفض المشاركة في ورشة البحرين. وقاومت الضغوط التي مورست عليها. وهي تدرك أنه لولا هذا الموقف للحق بالقضية والحقوق الوطنية وعموم الحالة الفلسطينية ضرر فادح، من الصعب جداً تفادي نتائجه الكارثية. ووقوف القيادة الرسمية إلى جانب الفصائل، والحالة الشعبية، وفر حالة فلسطينية، أعادت تقديم القضية إلى الرأي العام، على أنها قضية سياسية وطنية، وقضية حقوق، وقضية احتلال، وقضية حرية وقضية وطن، وليست قضية شعب جائع، أو قضية شق طريق هنا، أو طريق هناك، أو بناء حي سكني هنا أو حي سكني هناك. هذا الموقف هو الذي استنهض الحالة الشعبية العربية التي شكلت الصوت البديل لصوت الأنظمة العربية التي شاركت في الورشة. هذا يعني فما يعنيه أن الأرضية الفلسطينية والأرضية العربية جاهزة لدخول المعركة والانتقال من كونها معركة «الرفض» وقول «لا»، ومعركة الاشتباك الكلامي المجاني من بعيد، إلى معركة ميدانية، تغلق الطريق على مخرجات ورشة البحرين، وترد بخطوات عملية ميدانية على الخطوات التطبيقية لصفقة ترامب، بدءاً بالقدس، و إنتهاء بقضية اللاجئين وحق العودة، وما بينهما من تفاصيل كبرى.
إذا ما استمر الحال على ما هو عليه، واستمرت القيادة الرسمية في المراوحة في المكان، وعدم البناء على التطور الإيجابي في الحالة الشعبية العربية، وعلى مواقف الدول العربية التي رفضت الاشتراك في الورشة، فإن ما تحقق من نتائج سياسية ومعنوية، من شأنه أن يتلاشى يوماً بعد يوم، ومن شأن الأحداث والوقائع المتجددة أن تسيطر على الوضع العام، وأن تحل محله، بسلبياتها المعروفة. ولعل عودة طرفي الانقسام، فتح وحماس، إلى التجاذب الإعلامي، في اليومين الأخيرين، حتى قبل أن يجف حبر قرارات وتوصيات ومحاضر ورشة البحرين، دليل فاقع أن الأمور لا تسير بالاتجاه الصحيح، وأن القلق هو السائد، قلق في كافة المجالات، لا يمكن إزالته والانتصار عليه إلا بالعمل، أي بالخطوات الفعلية؛ وفي مقدمها العودة إلى تطبيق قرارات المجلس المركزي (الدورة الـ27+الـ28) والمجلس الوطني (الدورة 23) وتصويب الأوضاع داخل م.ت.ف، وإنهاء الانقسام بين فتح وحماس، وإعادة بناء المؤسسة الوطنية على أسس ائتلافية وبموجب الشراكة الوطنية الجامعة للكل دون استثناء .
(4)
من القضايا التي لم تعد تتحمل التأجيل، هو الوضع الحكومي في السلطة الفلسطينية. فقد أثبتت الحكومة حتى الآن، عجزها عن حل الأزمة المالية، ولا نعتقد أن اللجوء إلى تسديد جزء من الرواتب يشكل حلاً. فخبراء الاقتصاد، والعارفون ببواطن النظام الاقتصادي الريعي للسلطة الفلسطينية، والمعتمد على المساعدات والقروض والضرائب المباشرة، يعرفون خطورة هذه الخطوة على محمل الحالة الاقتصادية، نظراً لمحورية دور راتب الموظف في الحركة المالية والاقتصادية في النظام المالي والسياسي للسلطة الفلسطينية. فضلاً عن أن هذا الحل لا يمكن أن يدوم طويلاً إذا لم يتوفر للسلطة مصدر تمويل. ومن يراجع تصريحات الخبراء في سلطة النقد الفلسطينية، يعرف حجم الأزمة وخطورتها، بما في ذلك على بقاء السلطة، واحتمالات انهيارها. بينما تتسم تصريحات رئيس الحكومة بالإراديوية التي لا توفر حلاً للأزمة. حتى الكلام المنسوب إلى الرئيس عباس، والذي رفع فيه القبعة للمواطن الفلسطيني في صبره وصموده، لم يقدم حلاً. ما يعني أن الأمور ذاهبة نحو الطريق المسدود، وأن السلطة تعيش أزمة مالية، هي في جوهرها أزمة سياسية من الطراز الأول.
وما يخشاه المراقبون أن يكون هذا النمط من التعايش مع الأزمة، يشكل تمهيداً للعودة إلى «التفاوض» مع الجانب الإسرائيلي، حول أموال المقاصة لصالح تقديم تنازلات، بدواعي منع انهيار السلطة. قد يشكل هذا، إن هو وقع حلاً لمنع انهيار السلطة، لكنه في الوقت نفسه، يشكل هزيمة سياسية، ترضخ عبرها السلطة للشروط الإسرائيلية، ما من شأنه إضعاف الموقف الفلسطيني في جوهره، وإبقائه أسير الاتفاقات والعلاقات القائمة مع دولة الاحتلال.
في الوقت نفسه لم تنجح الحكومة، حتى الآن، في التقدم خطوة واحدة إلى الأمام على طريق إنهاء الانقسام مع حماس. ويبدو أن الحل لن يكون على يد هذه الحكومة. فهي غير مرشحة، وفق التقديرات والظروف القائمة، للنجاح فيما فشلت قيادات الصف الأول في فتح وحماس في تحقيقه. لذلك نعتقد، مع الذين يعتقدون، أن إحالة ملف الانقسام إلى الحكومة، هو نوع من تهريب القضية والتهرب من الدعوات إلى عقد اجتماع لهيئة تفعيل وتطوير م.ت.ف، التي تضم اللجنة التنفيذية والأمناء العامين، ورئيس المجلس الوطني وشخصيات مستقلة. قرار دعوة «الهيئة» بيد القيادة السياسية. ومن يتابع الاجتماعات التشاورية للجنة التنفيذية في م.ت.ف، والتي تنعقد في ظل غياب دائم لرئيسها، يدرك أن احتمالات انعقاد «الهيئة القيادية الأولى» مازال بعيداً وفق كل الحسابات.
أما إحالة قرارات المجلس الوطني والمركزي إلى الحكومة لتطبيقها، فما هي إلا نكتة، تسخر من عقول الناس، ومعيار مدى جدية اللجنة التنفيذية في تحمل مسؤولياتها الوطنية، وحالة التهميش التي باتت تعيشها، كقيادة يومية للشعب الفلسطيني .
(5)
آخر ما أبدعته سياسة التهرب من استحقاقات قرارات المجلسين المركزي والوطني، هو في إعادة تفسير القرارات، أو تبرير عدم تطبيقها، بذريعة عدم إلحاق الضرر بالقضية والحقوق الوطنية.
من هذه الإبداعات القول بأنه ليس ضرورياً سحب الاعتراف بإسرائيل أو تعليقه، لأنه بات غير ذي جدوى.
ويضيف أصحاب الإبداعات هذه، أن الاعتراف يوم 9/9/1993 وقعته م.ت.ف وليس دولة فلسطين، وأن الكيان السياسي الفلسطيني الآن تجاوز حالة المنظمة لصالح الدولة. وأن الرئيس عباس يوقع مراسيم قراراته ومذكراته وبرقياته ورسائله إلى الدول باسم دولة فلسطين. وبما أن الدولة الفلسطينية ليست هي من وقع صك الاعتراف بدولة إسرائيل، فهي اذن غير ملزمة بهذا الاعتراف، وبالتالي، هي غير مطالبة بسحب الاعتراف لأنه لم يقع أصلاً!.
هرطقة سياسية مثيرة للسخرية، تفصل بين المنظمة والدولة، وتتجاهل أنه يوم تم التوقيع، كان هناك إعلان استقلال، وتمت تسمية الرئيس ياسر عرفات رئيساً للدولة، وفاروق القدومي، رئيس الدائرة السياسية في اللجنة التنفيذية وزيراً لخارجية دولة فلسطين، واللجنة التنفيذية بمثابة حكومة دولة فلسطين.
ما معناه أن هذه الهرطقة ما هي إلا للتهرب من تنفيذ القرار، ودليل على غياب «النوايا»، والاحتمالات، لتطبيقها في الوقت القريب.
ومن الإبداعات المهرطقة ، القول بأن وقف التنسيق الأمني من شأنه أن يلحق الضرر بالمصالح الوطنية. بدعوى أن وظيفة التنسيق الأمني هي تسهيل حركة القيادات الفلسطينية، داخل الضفة، وعبر المعابر الحدودية، وانه من دون تنسيق أمني يتعذر الحركة.
في هذا القول تزوير . فهو فضلاً عن كونه اعترافا بمهزلة أوسلو، التي حولت الشعب وقيادته إلى أسرى موظف بدرجة دنيا في الإدارة المدنية لسلطات الاحتلال، وموظف آخر بدرجة دنيا في المعبر الحدودي، هما اللذان يديران مسألة تنسيق الأفراد. فهو في الوقت نفسه تجاهل للجانب الأكثر خطورة في التنسيق أي الجانب الأمني. ولا داعي للتحدي للتأكيد أن قضايا التنسيق تلحق الضرر بالحركة الشعبية الفلسطينية. إذ إن اعترافات قادة الاحتلال وأجهزته الأمنية تشكل شهادة كافية للتدليل على الجوانب الأكثر خطورة لعملية التنسيق.
وحتى لا نذهب بعيداً، يكفي الاستعانة بما تقوله القيادة الرسمية، من أنها تعتبر التنسيق الأمني «مقدساً»، وما تقوله الدوائر الإسرائيلية عن الفوائد الأمنية والاقتصادية لعملية التنسيق، و الاجتماعات التي تعقد على أعلى المستويات، في السلطة الفلسطينية مع قادة الأجهزة الامنية الإسرائيلية.
ولعل آخر تصريح ذي دلالة هو تأكيد القيادة الرسمية أن العلاقة مع الجانب الأميركي مازالت على خط التنسيق الأمني ضد الإرهاب. دون أن تعرف القيادة الفلسطينية ما هو الإرهاب، بينما تعتبر الولايات المتحدة وإسرائيل كل أشكال النضال الفلسطيني إرهاباً، ما يدعو إلى القلق والخوف الشديد مما يدور في هذه القنوات الأمنية.
علماً أن أجهزة المخابرات في الدول لا تقف وظائفها ومهامها عند حدود القضايا الأمنية، دون أن يلغي ذلك أن القضايا الأمنية هي في جوهرها سياسية.
فالسياسة هي التي تحدد العقيدة الأمنية لجهاز المخابرات. ولا نستطيع الفصل بين اتفاق أوسلو، والتزاماته، واستحقاقاته، وبين العقيدة الأمنية التي تستمد منه.
والواقع يقول إن القضايا الكبرى، في العديد من الدول، تتولاها أجهزة المخابرات، وليس وزارة الخارجية. ولعل التجربة المصرية نموج بارز. فالمخابرات هي التي تتابع العديد من الملفات الكبرى في الشرق العربي وفي افريقيا، في مقدمة ذلك الملف الفلسطيني.■
■ انفضت ورشة البحرين الاقتصادية، وفشل عرابها جاريد كوشنر في جر الفلسطينيين إلى ارتكاب جرم المشاركة فيها. لكنها، في الوقت نفسه، حققت أهدافاً إقليمية، جعلت من العلاقات الإسرائيلية مع بعض الأنظمة العربية علنية ورسمية، ولم تعد موضع شك في انتهاك فظ وفاقع لمبادرة السلام العربية.
لكن ما يجب التأكيد عليه، في هذا المجال، وقد سبقنا إلى ذلك بعض المراقبين، أن الورشة لم تكن مجرد حدث، وقع و انقضى. بل هي في الحقيقة فصل في مشروع سياسي، لحل وتصفية المسألة الفلسطينية، أطلق عليه اسم «صفقة القرن»، أطلقنا عليها اسم «صفقة ترامب – نتنياهو». أما كوشنر، الذي يرى في نفسه الحكيم المتمتع بكل القدرات الخارقة، والقادم إلينا بالحلول السحرية، فقد أطلق عليها اسم «فرصة القرن»، في لغة واضحة، تحمل تهديداً للفلسطينيين، «إما أن تستفيدوا من هذه الفرصة وتغتنموها، وإما ستفوتكم الفرصة إلى الأبد».
قَبِلَ الفلسطينيون التحدي، ورفضوا «الفرصة»، ليس لأنهم عدميون، بل لأن هذه «الفرصة» هي إسرائيلية – أمريكية بامتياز، لدفن القضة والحقوق الوطنية الفلسطينية في جنازة إقليمية مهيبة، ترتفع كلفتها إلى 50 مليار دولار، يكون فيها أصحاب القضية شهود الزور الأوائل. ولأن الولايات المتحدة، وإسرائيل ومن معهما، لن يجدوا فلسطينياً واحد، يقبل أن يكون شاهد زور على تصفية القضية والحقوق في حفل اقتصادي ماجن، اضطر كوشنر للاعتراف أن الشق الاقتصادي يحتاج بالضرورة إلى الحل السياسي ليأخذ مداه، وأنه دون حل سياسي للقضية سيبقى العمل ناقصاً.
(2)
ما قاله كوشنر، تأكيد إضافي على صحة الرأي القائل إن ورشة البحرين ليست مجرد حدث عابر، يمكن التصدي له في معركة محدودة الأجل، ثم نذهب بعدها لنرتاح. هي فصل في معركة التصدي لصفقة ترامب – نتنياهو. وقد وعد كوشنر أنه سيكشف عن عناصر جديدة للصفقة، مبتدئاً بوكالة الغوث معتبراً المال المرصود لها هدراً للملايين والإجدى أن تتحول أموال الوكالة لصالح مشاريع ورشة البحرين.
هكذا يكون كوشنر قد أعادنا إلى جذر المسألة التي تقول إن ورشة البحرين تقوم على مبدأ تجريد الفلسطينيين من حقوقهم، أبرزها حق اللاجئين في العودة إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها منذ العام 1948. لم يعد سراً القول إن كوشنر صارح الدول العربية الموعودة بمال ورشة البحرين، أن عليها، مقابل هذا المال، أن تشارك في توفير الظروف والمكان، والآليات والأدوات الضرورية لتوطين اللاجئين الفلسطينيين، وأن الولايات المتحدة، والتي تتحدث كثيراً عن الازدهار والسلام، ليس لديها ما تقدمه لأحد مجاناً، فلكل سلعة ثمنها، والصفقة تقوم على تسليع القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية، وحلها عبر سلسلة من الصفقات المتبادلة.
لعل تصريح كوشنر هو أحد مخرجات ورشة البحرين، وأحد نتائج ترسيم العلاقات بين إسرائيل وبعض الأنظمة العربية وعلى مبدأ يقول «الاعتراف بإسرائيل اليهودية كأمر واقع»، وحل قضية اللاجئين بما يضمن لإسرائيل «يهوديتها»، الاعتراف بإسرائيل كدولة في الشرق الأوسط بات أمراً واقعاً. والاعتراف بأن اللجوء بات هو الآخر أمراً واقعاً يجب الإقرار به كحل دائم لقضية اللاجئين. وأن تقوم على مبدأ الحل البديل للعودة، ويتراوح بين التوطين في مكان الإقامة، أو التهجير، على شاكلة ما تشهده أوضاع اللاجئين في لبنان، في ظل حصار أمني وسياسي واجتماعي واقتصادي، يتعرض له اللاجئون الفلسطينيون المقيمون فيه.
(3)
مما لا شك فيه أن القيادة الرسمية التي بيدها زمام القرار، حصدت النتائج الإيجابية لموقفها في رفض المشاركة في ورشة البحرين. وقاومت الضغوط التي مورست عليها. وهي تدرك أنه لولا هذا الموقف للحق بالقضية والحقوق الوطنية وعموم الحالة الفلسطينية ضرر فادح، من الصعب جداً تفادي نتائجه الكارثية. ووقوف القيادة الرسمية إلى جانب الفصائل، والحالة الشعبية، وفر حالة فلسطينية، أعادت تقديم القضية إلى الرأي العام، على أنها قضية سياسية وطنية، وقضية حقوق، وقضية احتلال، وقضية حرية وقضية وطن، وليست قضية شعب جائع، أو قضية شق طريق هنا، أو طريق هناك، أو بناء حي سكني هنا أو حي سكني هناك. هذا الموقف هو الذي استنهض الحالة الشعبية العربية التي شكلت الصوت البديل لصوت الأنظمة العربية التي شاركت في الورشة. هذا يعني فما يعنيه أن الأرضية الفلسطينية والأرضية العربية جاهزة لدخول المعركة والانتقال من كونها معركة «الرفض» وقول «لا»، ومعركة الاشتباك الكلامي المجاني من بعيد، إلى معركة ميدانية، تغلق الطريق على مخرجات ورشة البحرين، وترد بخطوات عملية ميدانية على الخطوات التطبيقية لصفقة ترامب، بدءاً بالقدس، و إنتهاء بقضية اللاجئين وحق العودة، وما بينهما من تفاصيل كبرى.
إذا ما استمر الحال على ما هو عليه، واستمرت القيادة الرسمية في المراوحة في المكان، وعدم البناء على التطور الإيجابي في الحالة الشعبية العربية، وعلى مواقف الدول العربية التي رفضت الاشتراك في الورشة، فإن ما تحقق من نتائج سياسية ومعنوية، من شأنه أن يتلاشى يوماً بعد يوم، ومن شأن الأحداث والوقائع المتجددة أن تسيطر على الوضع العام، وأن تحل محله، بسلبياتها المعروفة. ولعل عودة طرفي الانقسام، فتح وحماس، إلى التجاذب الإعلامي، في اليومين الأخيرين، حتى قبل أن يجف حبر قرارات وتوصيات ومحاضر ورشة البحرين، دليل فاقع أن الأمور لا تسير بالاتجاه الصحيح، وأن القلق هو السائد، قلق في كافة المجالات، لا يمكن إزالته والانتصار عليه إلا بالعمل، أي بالخطوات الفعلية؛ وفي مقدمها العودة إلى تطبيق قرارات المجلس المركزي (الدورة الـ27+الـ28) والمجلس الوطني (الدورة 23) وتصويب الأوضاع داخل م.ت.ف، وإنهاء الانقسام بين فتح وحماس، وإعادة بناء المؤسسة الوطنية على أسس ائتلافية وبموجب الشراكة الوطنية الجامعة للكل دون استثناء .
(4)
من القضايا التي لم تعد تتحمل التأجيل، هو الوضع الحكومي في السلطة الفلسطينية. فقد أثبتت الحكومة حتى الآن، عجزها عن حل الأزمة المالية، ولا نعتقد أن اللجوء إلى تسديد جزء من الرواتب يشكل حلاً. فخبراء الاقتصاد، والعارفون ببواطن النظام الاقتصادي الريعي للسلطة الفلسطينية، والمعتمد على المساعدات والقروض والضرائب المباشرة، يعرفون خطورة هذه الخطوة على محمل الحالة الاقتصادية، نظراً لمحورية دور راتب الموظف في الحركة المالية والاقتصادية في النظام المالي والسياسي للسلطة الفلسطينية. فضلاً عن أن هذا الحل لا يمكن أن يدوم طويلاً إذا لم يتوفر للسلطة مصدر تمويل. ومن يراجع تصريحات الخبراء في سلطة النقد الفلسطينية، يعرف حجم الأزمة وخطورتها، بما في ذلك على بقاء السلطة، واحتمالات انهيارها. بينما تتسم تصريحات رئيس الحكومة بالإراديوية التي لا توفر حلاً للأزمة. حتى الكلام المنسوب إلى الرئيس عباس، والذي رفع فيه القبعة للمواطن الفلسطيني في صبره وصموده، لم يقدم حلاً. ما يعني أن الأمور ذاهبة نحو الطريق المسدود، وأن السلطة تعيش أزمة مالية، هي في جوهرها أزمة سياسية من الطراز الأول.
وما يخشاه المراقبون أن يكون هذا النمط من التعايش مع الأزمة، يشكل تمهيداً للعودة إلى «التفاوض» مع الجانب الإسرائيلي، حول أموال المقاصة لصالح تقديم تنازلات، بدواعي منع انهيار السلطة. قد يشكل هذا، إن هو وقع حلاً لمنع انهيار السلطة، لكنه في الوقت نفسه، يشكل هزيمة سياسية، ترضخ عبرها السلطة للشروط الإسرائيلية، ما من شأنه إضعاف الموقف الفلسطيني في جوهره، وإبقائه أسير الاتفاقات والعلاقات القائمة مع دولة الاحتلال.
في الوقت نفسه لم تنجح الحكومة، حتى الآن، في التقدم خطوة واحدة إلى الأمام على طريق إنهاء الانقسام مع حماس. ويبدو أن الحل لن يكون على يد هذه الحكومة. فهي غير مرشحة، وفق التقديرات والظروف القائمة، للنجاح فيما فشلت قيادات الصف الأول في فتح وحماس في تحقيقه. لذلك نعتقد، مع الذين يعتقدون، أن إحالة ملف الانقسام إلى الحكومة، هو نوع من تهريب القضية والتهرب من الدعوات إلى عقد اجتماع لهيئة تفعيل وتطوير م.ت.ف، التي تضم اللجنة التنفيذية والأمناء العامين، ورئيس المجلس الوطني وشخصيات مستقلة. قرار دعوة «الهيئة» بيد القيادة السياسية. ومن يتابع الاجتماعات التشاورية للجنة التنفيذية في م.ت.ف، والتي تنعقد في ظل غياب دائم لرئيسها، يدرك أن احتمالات انعقاد «الهيئة القيادية الأولى» مازال بعيداً وفق كل الحسابات.
أما إحالة قرارات المجلس الوطني والمركزي إلى الحكومة لتطبيقها، فما هي إلا نكتة، تسخر من عقول الناس، ومعيار مدى جدية اللجنة التنفيذية في تحمل مسؤولياتها الوطنية، وحالة التهميش التي باتت تعيشها، كقيادة يومية للشعب الفلسطيني .
(5)
آخر ما أبدعته سياسة التهرب من استحقاقات قرارات المجلسين المركزي والوطني، هو في إعادة تفسير القرارات، أو تبرير عدم تطبيقها، بذريعة عدم إلحاق الضرر بالقضية والحقوق الوطنية.
من هذه الإبداعات القول بأنه ليس ضرورياً سحب الاعتراف بإسرائيل أو تعليقه، لأنه بات غير ذي جدوى.
ويضيف أصحاب الإبداعات هذه، أن الاعتراف يوم 9/9/1993 وقعته م.ت.ف وليس دولة فلسطين، وأن الكيان السياسي الفلسطيني الآن تجاوز حالة المنظمة لصالح الدولة. وأن الرئيس عباس يوقع مراسيم قراراته ومذكراته وبرقياته ورسائله إلى الدول باسم دولة فلسطين. وبما أن الدولة الفلسطينية ليست هي من وقع صك الاعتراف بدولة إسرائيل، فهي اذن غير ملزمة بهذا الاعتراف، وبالتالي، هي غير مطالبة بسحب الاعتراف لأنه لم يقع أصلاً!.
هرطقة سياسية مثيرة للسخرية، تفصل بين المنظمة والدولة، وتتجاهل أنه يوم تم التوقيع، كان هناك إعلان استقلال، وتمت تسمية الرئيس ياسر عرفات رئيساً للدولة، وفاروق القدومي، رئيس الدائرة السياسية في اللجنة التنفيذية وزيراً لخارجية دولة فلسطين، واللجنة التنفيذية بمثابة حكومة دولة فلسطين.
ما معناه أن هذه الهرطقة ما هي إلا للتهرب من تنفيذ القرار، ودليل على غياب «النوايا»، والاحتمالات، لتطبيقها في الوقت القريب.
ومن الإبداعات المهرطقة ، القول بأن وقف التنسيق الأمني من شأنه أن يلحق الضرر بالمصالح الوطنية. بدعوى أن وظيفة التنسيق الأمني هي تسهيل حركة القيادات الفلسطينية، داخل الضفة، وعبر المعابر الحدودية، وانه من دون تنسيق أمني يتعذر الحركة.
في هذا القول تزوير . فهو فضلاً عن كونه اعترافا بمهزلة أوسلو، التي حولت الشعب وقيادته إلى أسرى موظف بدرجة دنيا في الإدارة المدنية لسلطات الاحتلال، وموظف آخر بدرجة دنيا في المعبر الحدودي، هما اللذان يديران مسألة تنسيق الأفراد. فهو في الوقت نفسه تجاهل للجانب الأكثر خطورة في التنسيق أي الجانب الأمني. ولا داعي للتحدي للتأكيد أن قضايا التنسيق تلحق الضرر بالحركة الشعبية الفلسطينية. إذ إن اعترافات قادة الاحتلال وأجهزته الأمنية تشكل شهادة كافية للتدليل على الجوانب الأكثر خطورة لعملية التنسيق.
وحتى لا نذهب بعيداً، يكفي الاستعانة بما تقوله القيادة الرسمية، من أنها تعتبر التنسيق الأمني «مقدساً»، وما تقوله الدوائر الإسرائيلية عن الفوائد الأمنية والاقتصادية لعملية التنسيق، و الاجتماعات التي تعقد على أعلى المستويات، في السلطة الفلسطينية مع قادة الأجهزة الامنية الإسرائيلية.
ولعل آخر تصريح ذي دلالة هو تأكيد القيادة الرسمية أن العلاقة مع الجانب الأميركي مازالت على خط التنسيق الأمني ضد الإرهاب. دون أن تعرف القيادة الفلسطينية ما هو الإرهاب، بينما تعتبر الولايات المتحدة وإسرائيل كل أشكال النضال الفلسطيني إرهاباً، ما يدعو إلى القلق والخوف الشديد مما يدور في هذه القنوات الأمنية.
علماً أن أجهزة المخابرات في الدول لا تقف وظائفها ومهامها عند حدود القضايا الأمنية، دون أن يلغي ذلك أن القضايا الأمنية هي في جوهرها سياسية.
فالسياسة هي التي تحدد العقيدة الأمنية لجهاز المخابرات. ولا نستطيع الفصل بين اتفاق أوسلو، والتزاماته، واستحقاقاته، وبين العقيدة الأمنية التي تستمد منه.
والواقع يقول إن القضايا الكبرى، في العديد من الدول، تتولاها أجهزة المخابرات، وليس وزارة الخارجية. ولعل التجربة المصرية نموج بارز. فالمخابرات هي التي تتابع العديد من الملفات الكبرى في الشرق العربي وفي افريقيا، في مقدمة ذلك الملف الفلسطيني.■
أضف تعليق