السرطان في غزة
■ آخر خبر ورد من قطاع غزة، أن عائلة بأكملها يشكو أفرادها مرض السرطان. وبذلك تتفرد غزة بظاهرة، لم نطلع على مثيل لها في العالم كله. وهو أمر يعطي القطاع بعداً جديداً، مأساوياً، من أبعاده المأساوية الأخرى.
فالقطاع تحت وطأة الانقسام المدمر منذ أكثر من اثني عشر عاماً، شهدت شوارع مدنه ومخيماته مقدماته في تلك المعارك الطاحنة والدموية، التي دارت بين مسلحي فتح وحماس، على مدار أكثر من سنة، انتهت بالانقسام والانقلاب في 14/6/2007، حاولت قبله الجبهتان الديمقراطية والشعبية، والجهاد الإسلامي، إطفاء نيرانه حين كان مقاتلو الأطراف الثلاثة، يفصلون بين المسلحين والمقاتلين، ويعملون على حجب الدم الذي أهرق مجاناً، في صراعات على مغانم ومصالح فئوية.
وبذريعة سيطرة حماس على القطاع، فرضت إسرائيل، والولايات المتحدة، ودول أخرى أوروبية وغيرها، حصاراً محكماً على أهله وسكانه، طال الكهرباء والماء، والصحة، والغذاء، والاستيراد والتصدير، وعطل الصناعة، والتجارة، ونظام الحياة الطبيعية، حتى بات أهل القطاع يتفننون في الاحتيال على الحياة، ليبعدوا شبح الموت الذي مازال يحوم فوق رؤوسهم بأشكاله المختلفة. وزاد الطين بلة، بل زاد المأساة تفاقماً، تداعيات الانقسام بين فتح وحماس، والصراع الدائر بينهما، والحروب المختلفة، الإعلامية والسياسية والمالية وغيرها، دفع ثمنه باهظاً أهل القطاع، من موظفين، وعائلات شهداء وجرحى، وحالات اجتماعية، تستند إلى مساعدات وزارات في السلطة شحت أموالها، بفعل السياسات الخاطئة، فكانت هذه الحالات في مقدمة المتأثرين، والذين يتلوون جوعاً، دون مبالغة.
وفي كل مرة يقرع ناقوس الخطر، مهدداً بوفاة الآلاف من أبناء غزة، إما لانقطاع التيار الكهربائي، وتهدد الإسعافات والمستشفيات عن العمل، وإما لنفاذ الدواء والأجهزة الطبية اللازمة لإنقاذ مصابي الشعب، يسقط يومياً في صفوفه جرحى وشهداء برصاص الحصار الإسرائيلي وعدوانه الذي لا يتوقف.
* * *
الآن، تدق حكومة نتنياهو طبول الحرب. في مزايدات سياسية انتخابية بينه وبين منافسيه، خاصة بعد أن دخل على خط المنافسة جنرالات حرب، لا يرون إلا في الدماء الفلسطينية وسيلة لبناء سمعة وشهرة سياسية. والأخطر من هذا أن طبول الحرب هذه، تغطي على الأعمال العدوانية اليومية التي تحولت – وهنا الخطورة – إلى ظاهرة يومية إعتاد الرأي العام عليها، بحيث بات الحديث عن سقوط جرحى في مسيرات العودة وكسر الحصار، أمراُ عادياً، وكذلك بات أمراً عادياً سقوط شهداء في هذه المسيرات. لكن أخطر ما في هذا الأمر، تلك المعادلة السخيفة والفاسدة واللئيمة التي باتت ترى في تراجع عدد الشهداء وعدد الجرحى أمراً إيجابياً، وكأن اللعبة تقتضى، وتفترض أن يدفع أبناء القطاع دمهم يومياً وعلى الأخص، أيام الجمعة، ليبقوا في دائرة اهتمام الدوائر السياسية، ودوائر الأمم المتحدة والرأي العام. ولعل قليلين هم من أذهلهم ارتفاع عدد الشهداء في القطاع، في مسيرات العودة خلال عام، وإذا ما قورن هذا الرقم بسنوات سابقة لأدركنا أنه يساوي حصيلة عدة سنوات، ما يعني أن القطاع يدفع ضريبة الدم، لا لشيء، سوى ليحافظ على الحياة. وهو ثمن باهظ، لا نلاحظ أن ثمة جهداً سياسياً، فلسطينياً وعربياً ودولياً، على الصعيد الرسمي لإنقاذ القطاع من مأساته وإخراجه منها، نحو حياة يتوفر فيها الحد الأدنى من الشروط الطبيعية.
* * *
في هذا السياق، نقف لنقارن بين الوضع في قطاع غزة(وبالضرورة في الضفة الفلسطينية، وفي القدس المحتلة وصولاً إلى أوضاع أهلنا في الـ 48، ومآسي أهلنا في المخيمات). وبين الوضع في فنزويلا.
في فنزويلا رئيس شرعي، انتخبه الشعب في صندوق الاقتراع، علناً، وعلى رؤوس الأشهاد. بالمقابل هناك رئيس للبرلمان، معارض لرئيس البلاد. وهذا تأكيد صارخ على أن الانتخابات كانت في الحالتين نزيهة، ولو كانت مزورة، كما يدعي البعض، للطعن في شرعية مادورو، لما وصلت المعارضة إلى رئاسة البرلمان.
بإشارة من الولايات المتحدة، أعلن رئيس البرلمان نفسه رئيساً مؤقتاً للبلاد، ونال «شرعية» هذا المنصب من قبل الولايات المتحدة، وعدد من دول الاتحاد الأوروبي، ودولة الاحتلال الاسرائيلي، ودول أخرى، لا تخالف تعليمات الإدارة الأميركية وأوامرها.
هذا الاهتمام المبالغ فيه بفنزويلا، وهذا البكاء والعويل على «الديمقراطية» المزعومة في فنزويلا، وهذا التكالب المكشوف والإشفاق المقزز على ما يسمى حقوق الإنسان في فنزويلا، يدفعنا للسؤال، لماذا يغطي هذا الصف العريض من اتباع الولايات المتحدة، عينيه عما يجري في قطاع غزة، [يلتحق بهم صف عريض من جبناء السياسة في أوروبا الذين مازالت جذورهم الاستعمارية تحن إلى الماضي الأسود لأوروبا في مناطقنا] ولماذا لا يرى حقوق الإنسان إلا في فنزويلا، أو في كوبا، وفي كل بلد، تقول عاصمته «لا» كبيرة للولايات المتحدة وسياستها الاستعمارية.
ولماذا لا ترى الولايات المتحدة، إلا في فنزويلا، وما يدور فيها، موضوعاً يستحق أن يعالجه مجلس الأمن الدولي. بينما لا ترى في أوضاع غزة – وباقي المناطق المحتلة – ما يستحق عناء الاهتمام، بل على العكس، تبادر إلى قطع المساعدات عن السلطة وعن المؤسسات الأهلية والاجتماعية والصحية وغيرها.
قطاع غزة، في مأساته السياسية، مع الاحتلال ومع الحصار، ومع طرفي الانقسام، تضعه في مقدمة الأقاليم المتصادمة مع الاحتلال ومع الولايات المتحدة في هذا العالم.
وقطاع غزة، يستحق من الجميع، فلسطينيين وعرباً، أن يقدموا له حلاً لمأساته تتجاوز «العطف» عليه بمساعدات شحيحة.
والكرة أولاً أخيراً في ملعب طرفي الانقسام. والفضل، كل الفضل، لقطاع غزة، الذي أعاد لنا الوعي، بأن الغرب الأميركي، وأن جبناء أوروبا، مهما تلونوا بألوان حقوق الإنسان، فإن رائحة الإمبريالية النتنة والنزعة الاستعمارية المقززة لم تغادرهم حتى الآن.
هذا هو السرطان الحقيقي.■
نشرت بالتزامن مع مجلة الحرية الفلسطينية في العدد1713...
فالقطاع تحت وطأة الانقسام المدمر منذ أكثر من اثني عشر عاماً، شهدت شوارع مدنه ومخيماته مقدماته في تلك المعارك الطاحنة والدموية، التي دارت بين مسلحي فتح وحماس، على مدار أكثر من سنة، انتهت بالانقسام والانقلاب في 14/6/2007، حاولت قبله الجبهتان الديمقراطية والشعبية، والجهاد الإسلامي، إطفاء نيرانه حين كان مقاتلو الأطراف الثلاثة، يفصلون بين المسلحين والمقاتلين، ويعملون على حجب الدم الذي أهرق مجاناً، في صراعات على مغانم ومصالح فئوية.
وبذريعة سيطرة حماس على القطاع، فرضت إسرائيل، والولايات المتحدة، ودول أخرى أوروبية وغيرها، حصاراً محكماً على أهله وسكانه، طال الكهرباء والماء، والصحة، والغذاء، والاستيراد والتصدير، وعطل الصناعة، والتجارة، ونظام الحياة الطبيعية، حتى بات أهل القطاع يتفننون في الاحتيال على الحياة، ليبعدوا شبح الموت الذي مازال يحوم فوق رؤوسهم بأشكاله المختلفة. وزاد الطين بلة، بل زاد المأساة تفاقماً، تداعيات الانقسام بين فتح وحماس، والصراع الدائر بينهما، والحروب المختلفة، الإعلامية والسياسية والمالية وغيرها، دفع ثمنه باهظاً أهل القطاع، من موظفين، وعائلات شهداء وجرحى، وحالات اجتماعية، تستند إلى مساعدات وزارات في السلطة شحت أموالها، بفعل السياسات الخاطئة، فكانت هذه الحالات في مقدمة المتأثرين، والذين يتلوون جوعاً، دون مبالغة.
وفي كل مرة يقرع ناقوس الخطر، مهدداً بوفاة الآلاف من أبناء غزة، إما لانقطاع التيار الكهربائي، وتهدد الإسعافات والمستشفيات عن العمل، وإما لنفاذ الدواء والأجهزة الطبية اللازمة لإنقاذ مصابي الشعب، يسقط يومياً في صفوفه جرحى وشهداء برصاص الحصار الإسرائيلي وعدوانه الذي لا يتوقف.
* * *
الآن، تدق حكومة نتنياهو طبول الحرب. في مزايدات سياسية انتخابية بينه وبين منافسيه، خاصة بعد أن دخل على خط المنافسة جنرالات حرب، لا يرون إلا في الدماء الفلسطينية وسيلة لبناء سمعة وشهرة سياسية. والأخطر من هذا أن طبول الحرب هذه، تغطي على الأعمال العدوانية اليومية التي تحولت – وهنا الخطورة – إلى ظاهرة يومية إعتاد الرأي العام عليها، بحيث بات الحديث عن سقوط جرحى في مسيرات العودة وكسر الحصار، أمراُ عادياً، وكذلك بات أمراً عادياً سقوط شهداء في هذه المسيرات. لكن أخطر ما في هذا الأمر، تلك المعادلة السخيفة والفاسدة واللئيمة التي باتت ترى في تراجع عدد الشهداء وعدد الجرحى أمراً إيجابياً، وكأن اللعبة تقتضى، وتفترض أن يدفع أبناء القطاع دمهم يومياً وعلى الأخص، أيام الجمعة، ليبقوا في دائرة اهتمام الدوائر السياسية، ودوائر الأمم المتحدة والرأي العام. ولعل قليلين هم من أذهلهم ارتفاع عدد الشهداء في القطاع، في مسيرات العودة خلال عام، وإذا ما قورن هذا الرقم بسنوات سابقة لأدركنا أنه يساوي حصيلة عدة سنوات، ما يعني أن القطاع يدفع ضريبة الدم، لا لشيء، سوى ليحافظ على الحياة. وهو ثمن باهظ، لا نلاحظ أن ثمة جهداً سياسياً، فلسطينياً وعربياً ودولياً، على الصعيد الرسمي لإنقاذ القطاع من مأساته وإخراجه منها، نحو حياة يتوفر فيها الحد الأدنى من الشروط الطبيعية.
* * *
في هذا السياق، نقف لنقارن بين الوضع في قطاع غزة(وبالضرورة في الضفة الفلسطينية، وفي القدس المحتلة وصولاً إلى أوضاع أهلنا في الـ 48، ومآسي أهلنا في المخيمات). وبين الوضع في فنزويلا.
في فنزويلا رئيس شرعي، انتخبه الشعب في صندوق الاقتراع، علناً، وعلى رؤوس الأشهاد. بالمقابل هناك رئيس للبرلمان، معارض لرئيس البلاد. وهذا تأكيد صارخ على أن الانتخابات كانت في الحالتين نزيهة، ولو كانت مزورة، كما يدعي البعض، للطعن في شرعية مادورو، لما وصلت المعارضة إلى رئاسة البرلمان.
بإشارة من الولايات المتحدة، أعلن رئيس البرلمان نفسه رئيساً مؤقتاً للبلاد، ونال «شرعية» هذا المنصب من قبل الولايات المتحدة، وعدد من دول الاتحاد الأوروبي، ودولة الاحتلال الاسرائيلي، ودول أخرى، لا تخالف تعليمات الإدارة الأميركية وأوامرها.
هذا الاهتمام المبالغ فيه بفنزويلا، وهذا البكاء والعويل على «الديمقراطية» المزعومة في فنزويلا، وهذا التكالب المكشوف والإشفاق المقزز على ما يسمى حقوق الإنسان في فنزويلا، يدفعنا للسؤال، لماذا يغطي هذا الصف العريض من اتباع الولايات المتحدة، عينيه عما يجري في قطاع غزة، [يلتحق بهم صف عريض من جبناء السياسة في أوروبا الذين مازالت جذورهم الاستعمارية تحن إلى الماضي الأسود لأوروبا في مناطقنا] ولماذا لا يرى حقوق الإنسان إلا في فنزويلا، أو في كوبا، وفي كل بلد، تقول عاصمته «لا» كبيرة للولايات المتحدة وسياستها الاستعمارية.
ولماذا لا ترى الولايات المتحدة، إلا في فنزويلا، وما يدور فيها، موضوعاً يستحق أن يعالجه مجلس الأمن الدولي. بينما لا ترى في أوضاع غزة – وباقي المناطق المحتلة – ما يستحق عناء الاهتمام، بل على العكس، تبادر إلى قطع المساعدات عن السلطة وعن المؤسسات الأهلية والاجتماعية والصحية وغيرها.
قطاع غزة، في مأساته السياسية، مع الاحتلال ومع الحصار، ومع طرفي الانقسام، تضعه في مقدمة الأقاليم المتصادمة مع الاحتلال ومع الولايات المتحدة في هذا العالم.
وقطاع غزة، يستحق من الجميع، فلسطينيين وعرباً، أن يقدموا له حلاً لمأساته تتجاوز «العطف» عليه بمساعدات شحيحة.
والكرة أولاً أخيراً في ملعب طرفي الانقسام. والفضل، كل الفضل، لقطاع غزة، الذي أعاد لنا الوعي، بأن الغرب الأميركي، وأن جبناء أوروبا، مهما تلونوا بألوان حقوق الإنسان، فإن رائحة الإمبريالية النتنة والنزعة الاستعمارية المقززة لم تغادرهم حتى الآن.
هذا هو السرطان الحقيقي.■
نشرت بالتزامن مع مجلة الحرية الفلسطينية في العدد1713...
أضف تعليق