24 تشرين الثاني 2024 الساعة 08:48

النقابي والسياسي.. أين يتقاطعان ومتى يتفارقان؟

2019-02-02 عدد القراءات : 619
بادئ ذي بدء، وعلى رغم كلّ الخلافات المطروحة، لا يمكن لأحد إنكار حقيقة ثابتة مفادها أن ما يدفع النقابات إلى الاهتمام بالشأن العام والبحث عن تموضع سياسي ما، هو حتماً تصادم مصالحها والفئات الاجتماعية التي تدافع عنها، مع سياسات السلطة الاقتصادية والاجتماعية المغايرة، استناداً إلى قدرتها على الاستثمار في «القوة الشعبية الهائلة التي تمثلها»، والتي يمكن تجييرها كسلاح بيدها لممارسة الضغط على السلطة لفرض مطالبها.
وعلى سبيل المثال، فقد عرفت التجربة التونسية تداخلاً قل نظيره في العالم بين النضالين الاجتماعي والسياسي، (بما فيه الوطني التحرّري)، وهو ما عُرفَ به الرواد المؤسّسين للاتحاد العام التونسي للشغل منذ أربعينات القرن الماضي، ومع ذلك، فإن «الاتحاد» لم يختر الدخول في معترك الحياة السياسية في الآونة الأخيرة، والمشاركة المحتملة في الانتخابات المقبلة، إلا بسبب الأزمة العميقة التي تعيشها تونس على خلفية فشل الطبقة السياسية في ترجمة تطلّعات الشعب وطبقاته المتوسطة والكادحة على أرض الواقع!.
وقد غذّت عوامل ومعطيات متمخّضة أساساً من هذه الأزمة، النقاش والجدل مجدّداً في هذا الشأن، (علماً أنّ «الاتحاد»، وهو المنظمة النقابية الأكبر والأكثر تمثيلاً في البلاد، يُشكل في الأصل خير مثال عن الجدل القديم الجديد المتصل بتداخل العمل النقابي والشأن السياسي)؛ هل يجب الفصل بين العملين؟ هل يحق للنقابات أن تقحم نفسها في السياسة؟ وما هي الأسباب التي قد تدفع التمثيلات النقابية، العمالية والمهنية عامة، لطرق باب السياسة؟!. في وقت هناك من ينكر عليها ذلك، ويرى أن أيّ سعي وراء تحقيق مكاسب أو طموحات سياسية، يشكل «تنكرّاً لقواعد العمل النقابي من حيث الجوهر والمبدأ»!.
وقد جاء إعلان «اتحاد الشغل» بأنه سيشارك في الانتخابات العامة القادمة، والمقرّرة أواخر العام الحالي، في خضمّ هذه الأزمة وعلى خلفيتها، وذلك بعد الإضراب العام الذي نفذه يوم 17/1، والإضراب الذي يزمع أن ينفذه خلال الشهر الجاري، في وقت يصعب فيه الفصل أصلاً بين الاحتجاجات على واقع الأجور والأوضاع المعيشية الصعبة لأغلب طبقات وشرائح المجتمع التونسي، وبين الواقع السياسي واستقطاباته المعلنة في ظل الصراعات الدائرة؛ سواءً بين قصري قرطاج والقصبة، أم بين حزب «النداء» وأغلب قوى المعارضة (اليسارية والديمقراطية والقومية)، من جهة، وبين حركة «النهضة» ومعها «الترويكا الجديدة» الجديدة، من جهة أخرى.
وليس أدلُّ على ما نقول مما تردّد في خطاب «اتحاد الشغل» من أنّ هدفه ليس زيادات الأجور فحسب، بل هو «تقليم أظافر الحكومة» أيضاً، وذلك رداً على خطابات سابقة مبطّنة من أروقة الحكومة تستهدف بدورها تقليم أظافر المنظمة النقابية؟!.
يذكر أنّ الأمين العام للاتحاد، نورالدين الطبوبي، كان أعلن في غير مناسبة عن عزم المنظمة النقابية على المشاركة في الانتخابات، دون أن يفصح عن استراتيجيته في ذلك؛ هل سيقدم قائمات انتخابية خاصة به، أم سيدعم نقابيين مستقلين وأحزاب يتقاطع معها في الرؤية والبرامج، أم سيكون مهتماً من موقعه كقوة ضغط وتوجيه فقط؟!.
«اتحاد الشغل» ودوره التاريخي؟
وفي الواقع لا يتعلّق الأمر في تونس بالحديث عن وضع «منظمة نقابية نمطية» ينحصر دورها في القضايا المطلبية لمنتسبيها وتحسين أوضاعهم الاجتماعية فحسب، وإنما بمؤسسة «شريكة في بناء الدولة الوطنية منذ الاستقلال، ولها تاريخ في مقارعة الاستعمار الفرنسي»، وهي قدمت في سبيل ذلك دماء وأرواحاً يتقدمها زعيم المنظمة نفسه فرحات حشاد، الذي اغتيل في عام 1952 على أيدي عصابات تابعة للاستخبارات الفرنسية لأسباب سياسية.
وكما يوضح الرئيس التونسي، الباجي قايد السبسي، في مقابلة مع صحيفة «العرب» (29/1/2019)، فإن اغتيال حشاد «لم يقع لأنه نقابي، بل لأنه كان يُسيّر الحركة الوطنية عندما تم إبعاد ونفي الحبيب بورقيبة والمنجي سليم وزعماء الحركة الوطنية».
وعلى خلاف الكثير من الدول، فإن اتحاد الشغل ليس مجرد شريك اجتماعي في تونس، بل هو منظمة وطنية مشاركة في تأسيس الدولة، وكان دائماً معنياً بتحديد السياسات الوطنية وشريكاً وقوة ضغط في صنع القرار السياسي. وكما هو معروف، فقد شارك في الحياة السياسية عبر خوضه، في عام 1956، أول انتخابات للمجلس القومي التأسيسي آنذاك في قائمات مشتركة مع الحزب الحر الدستوري بزعامة الحبيب بورقيبة، أول رئيس للجمهورية التونسية.
وفي أول حكومة بعد الاستقلال كان الاتحاد مشاركاً بعدد لا يستهان به من الوزراء، قبل أن تحدث «قطيعة بين الاتحاد والحزب الحر الدستوري التونسي» الحاكم. ويضيف السبسي في اللقاء آنف الذكر، أنه في 26 كانون الثاني/ يناير 1978، «شهدت البلاد إضراباً عاما تخللته أعمال عنف واعتقالات وسقوط قتلى، وتفكك المنظومة الوطنية، وهو ما نريد تجنّبه اليوم، ونبهنا الأطراف إلى أنه عندنا تجربة سيئة، ولهذا يجب الحوار أحببنا أم كرهنا، وما دمنا وطنيين يمكن أن نصل إلى قاسم مشترك».
أما حديثا، فإن اتحاد الشغل، المُطالب من طرف أحزاب الائتلاف الحاكم بالعودة إلى مقراته النقابية، كان له دور سياسي هام في الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي في 2011، كما كانت له بصمة واضحة في 2013 عند تنحي حكم «الترويكا» التي قادتها حركة النهضة الإسلامية، حيث تصدّر «رباعي المنظمات المهنية والحقوقية»، التي رعت «الحوار الوطني» ونالت، فيما بعد، جائزة نوبل للسلام، على دورها المحوري في تجنيب البلاد حربا أهلية عبر مخرج «الحوار الوطني»، في وقت لم تكن هناك قوة سياسية بديلة في البلاد قادرة على فرض التوازن بوجه «الإسلاميين»!. هذا علاوة على مشاركته عام 2016 في تشكيل ما يعرف بـ«وثيقة قرطاج» وحكومة الوحدة الوطنية التي قادها يوسف الشاهد.
تشابك الاحتجاجات والصراع السياسي!
ومن الواضح في اللقاء المذكور مع الرئيس السبسي، أنه يبدو متحمساً لمشاركة اتحاد الشغل في الانتخابات القادمة، بوصفه «القوة المرشحة لخوض المواجهة مع النهضة والحكومة»، في آن معاً، معترفاً بتراجع حزب «نداء تونس» بعد الانشقاقات التي طالته، وانفكاك كثير من نوابه وكوادره والتحاقهم بكتلة «الائتلاف الوطني» المؤيدة لرئيس الحكومة يوسف الشاهد، ولافتاً إلى سيطرة حركة «النهضة» على الحكومة بوصفها الكتلة الأكبر في البرلمان، «حتى أن الغنوشي مثّل تونس في دافوس ومعه الكاتب العام للنهضة ورئيس الحكومة»، كما يشير السبسي، معتبراً أن هذه المشاركة «تولد عنها تداخل في الأصوات التي تتحدث باسم تونس في الخارج، وخلقت انطباعاً بأن النهضة تريد الظهور بمظهر من يحدد سياسات تونس اليوم»! (المصدر السابق).
لكن ومع ذلك، فإن الخوض أكثر في غمار السياسة، (مثل الدخول المباشر في الانتخابات)، قد يشكل لاتحاد الشغل مجازفة تنطوي على إمكانية خسارة جزء من قاعدته الاجتماعية والتمثيلية التي تتوزع في الأصل على تلوينات فكرية وسياسية مختلفة.
ذلك أن الفجوة كبيرة وواسعة، كما يعتقد كثيرون، بين النضال العمالي والنشاط الحزبي، فالأول يتعلق بمعيشة المواطن، أما الثاني فتحركه رياح المستجدات والمتغيرات الدائمة، ناهيك عن أنّ فوزه المحتمل في الانتخابات سيلقي على كاهله «مخاطر جسيمة إزاء حجم المسؤولية التي ستترتب على ذلك»، في ظل الأوضاع الصعبة والحرجة التي تمرّ بها البلاد!، وخصوصاً في ظل تشتّت الولاءات؟ واستحالة الجمع والتوفيق بين دورين على طرفي نقيض (السلطة والنقابة / الخصم والحكم)!. فمن سيتفاوض مع من؟، في حال بروز استحقاقات مطلبية ومعيشية؟، ألن يقود هذا إلى حال من الفوضى المؤسساتية، ألا يُسقط ذلك «ميثاق العمل النقابي» في رغام العمل الحزبي وتبدلاته السياسية، وما قد يشكله ذلك من «محرقة للعمل النقابي» نفسه، فضلاً عن سمعة «الاتحاد» التاريخية؟!.

أضف تعليق