.. آفاق الحالة الفلسطينية.. وأزمتها (3)
بدلاً من أن تذهب السلطة الفلسطينية المنحى الإيجابي، من موقع مسؤوليتها وإمساكها بزمام القرار، فتعيد تجميع الصف الوطني حول التوافقات السياسية التي أصبحت تشكل عنواناً للمرحلة القادمة، وبرنامج عملها المفترض، كونه يجيب على الاستحقاقات والتحديات التي تواجه الحالة والقضية الوطنية الفلسطينية بادرت إلى الانغماس في التصعيد.
في ميدان الانقسام من جهة، في مسؤولية مشتركة مع حركة حماس، في تعطيل التفاهمات الثنائية والجماعية، وتفسيرها وإعادة تفسيرها، وإطلاق النار عليها، ثم الانكشاف التام بالخروج عن هذه التفاهمات بخطوات وخطوات معاكسة، أرخت بظلالها السوداء على القضية الوطنية، حتى أن كثيرين باتوا على قناعة باستحالة العودة عن الانقسام، وأن الأمور ذاهبة نحو تأبيد الانفصال بين الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، وأننا بتنا أمام مرحلة عادت بنا إلى الوراء، في هاوية لا قعر لها.
..وفي إطار م.ت.ف، وبدلاً من احترام أسس الائتلاف الوطني الذي تقوم عليه العلاقات داخل المؤسسة الوطنية الجامعة، وبدلاً من احترام وتكريس مبدأ الشراكة الوطنية في المسؤولية في اتخاذ القرار الجماعي، واحترامه، واحترام تطبيقاته، وبدلاً من تمثيل وتماسك المؤسسة الوطنية الجامعة، باعتبارها الخندق الذي يتحصن فيه الشعب وقضيته تحت سقف برنامجه الوطني التوحيدي.. لجأت السلطة وقيادتها إلى سياسات ذات مردود عكسي، على الصعيد العام. فشنت حروبها المالية على المعارضة الوطنية لبرنامج أوسلو والتزاماته واستحقاقاته.
وشنت حروباً إعلامية ضد من يرفع لواء الإصلاح الديمقراطي وشعاراته. ووزعت الاتهامات يميناً ويساراً، وصولاً إلى التشكيك بوطنية شركاء فتح في م.ت.ف. وبارتباطهم بأجندات خارجية(!) لاوجود لها إلا في مخيلات أصحابها. واستمرت طويلاً في سياسة المناكفة والخطوات الكيدية، بعيداً عن أي منطق سياسي مفهوم، سوى أن هذا كله، لا يشكل سوى تعبيراً عن أزمة عميقة لدى من راهنوا على أوسلو، وراهنوا على الولايات المتحدة الأميركية، باعتبارها، هي صاحبة مفاتيح الحل.
(2)
بعد رحيل الرئيس عرفات، حسمت القيادة الرسمية موقفها لصالح استراتيجية تقوم على المفاوضات، تحت سقف أوسلو، وبرعاية الولايات المتحدة، خياراً سياسياً وحيداً. وأسقطت من حساباتها باقي الخيارات، وشددت على التزامها اتفاق أوسلو، وقيوده، في المقدمة منه، التنسيق الأمني الذي ارتفع إلى مستوى «القداسة».
هذا الرهان على الراعي الأميركي، وعلى أوسلو، وعلى المفاوضات خياراً وحيداً، أسقط من حساباته التجارب المرة التي عاشها الشعب الفلسطيني تحت سقف فضائح أوسلو وتطبيقاته، منذ التوقيع عليه في 13/9/1993، حتى رحيل الرئيس عرفات، في اعتقاد وتقدير متسرع، رأى الخلل في الإدارة الفلسطينية للعملية التفاوضية، وتغاضى بشكل كامل عن فساد اتفاق أوسلو نفسه، وضرورة تجاوزه، وتخطيه، لصالح استراتيجية بديلة، بدأت تطل برأسها مع اندلاع الانتفاضة الثانية، ووصول أوسلو إلى الطريق المسدود في مفاوضات كامب ديفيد،2 في تموز(يوليو)2000.
استمر الرهان على الراعي الأميركي في محطات صاعدة وهابطة، دون أن تتقدم العملية التفاوضية خطوة واحدة إلى الأمام. لقد أجاد المفاوض الإسرائيلي والراعي الأميركي استغلال حالة الوهن والضعف لدى المفاوض الفلسطيني، ولدى قيادته السياسية، وحول المفاوضات إلى عبث سياسي، تحت سقفه استمرت مشاريع الاستيطان، والتهويد، ومصادرة الأراضي، والقتل المتعمد للمواطنين، وتدمير الاقتصاد الفلسطيني (أو ما تبقى منه) وتعميق التحاقه بالاقتصاد الإسرائيلي، وأعيد بناء الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في السلطة الفلسطينية بما يستجيب لضرورات التنسيق الأمني و«قداسته».
ومع رحيل إدارة أميركية، ينتقل الرهان إلى الإدارة الأميركية اللاحقة. من بوش الابن، الذي اختتم أيامه الأخيرة بلقاء مع الرئيس عباس «ليعتذر» منه وله، أنه لم يفِ بوعده بقيام دولة فلسطينية في نهاية ولايته الثانية، كما وعد في مشروعه «لحل الدولتين»، متجاهلاً أنه هو من أجهض كل المحاولات الجادة للوصول إلى «حلول وسط»، منها «خطة خارطة الطريق» التي صادق بوش الإبن على إفراغها من مضمونها وتحويلها من مشروع للتطبيق المتلازم، إلى مجرد خطة لتغطية مشروع شارون للحل من طرف واحد، يقضي على مقومات البرنامج الوطني وشروط نجاحه..
.. إلى باراك أوباما، الذي افتتح عهده باعتبار قيام الدولة الفلسطينية مصلحة قومية أميركية عليا، لأنها، وعبرها، تعاد صياغات المعادلات الإقليمية، والعربية – الإسرائيلية، لصالح تكريس النفوذ الأميركي في المنطقة، وليس لأن قيام الدولة الفلسطينية استجابة للحقوق الوطنية المشروعة لشعب فلسطين وفي مقدمها حقه في تقرير المصير. ورحل أوباما، ورحل معه وزير خارجيته جون كبرى، وهو يغلي غضباً، محملاً نتنياهو مسؤولية إفشاله في صناعة «حل تاريخي» للصراع في المنطقة. إلى أن حلت إدارة ترامب بسيرتها العجائبية.
(3)
سبقت وصول إدارة ترامب إلى البيت الأبيض تصريحاته الواضحة والصريحة والفجة، حول الحل في المنطقة، بما يلبي المصالح الإسرائيلية وعلى حساب المصالح الوطنية الفلسطينية. ومع ذلك تواصل الرهان على دور الإدارة الأميركية لإنقاذ المفاوضات من البئر العميقة التي أغرقها فيها تطبيقات وتوازنات أوسلو.
تصاعدت المواقف الأميركية عداء لشعب فلسطين وقضيته وحقوقه الوطنية، وبات واضحاً أن الإدارة الأميركية تحمل في جعبتها «جديداً» فعلاً، يدخل في باب التغيير الاستراتيجي، وليس من باب التغيير التكتيكي. فلا الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة على حدود 4 حزيران (67) باتت مطروحة. ولا «حل الدولتين» كما طرحه بوش الإبن، وتدعو له الرباعية الدولية والاتحاد الأوروبي، وتتمسك بتلابيبه السلطة الفلسطينية، بات هو الآخر مطروحاً.
أما الدولة الواحدة التي دغدغت آمال البعض ممن فقد القدرة على الرؤية الواضحة، وتوفير الحل المباشر والميداني، فهرول إلى الأمام ليقدم الدولة الواحدة حلاً للقضية وقد أوهمته المظاهر المزيفة في أن ما يقوم به نتنياهو سيقود حتماً إلى الدولة الواحدة، غير مدرك لخفايا السياسية والخطة الإسرائيلية، ومدى قدره حكومة اليمين واليمين المتطرف على خلف الوقائع، تصب كلها في خدمة «إسرائيل الكبرى»، وتعكس في الجانب الآخر، بناء السدود العالية أمام قيام الدولة الفلسطينية. ومع ذلك بقي رهان السلطة وقيادتها على الدور الأميركي، وعلى حل الدولتين. إلى أن أطلقت «صفقة العصر»، و واكبها «قانون القومية» العنصري ليقولا بفم واحد، لغة واحدة ما يلي:
• لا للدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس على حدود 4 حزيران 67، ولا لحق العودة للاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها منذ العام 1948.
• ولا «لحل الدولتين». فلا دولة ثالثة بين نهر الأردن وبين دولة إسرائيل.
• ولا «دولة واحدة» يكون من شأنها أن تلغي «يهودية» إسرائيل، وبعد أن أقر «قانون القومية» حق تقرير المصير لليهود حصراً، و«نزعه» عن الشعب الفلسطيني.
وبالتالي باتت القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية أمام مشروع استراتيجي واضح المعالم لتصفية المسألة الفلسطينية.
كما باتت أمام استراتيجية أميركية من نوع آخر، تختلف عن استراتيجيات الإدارات السابقة التي مرت على البيت الأبيض.
(4)
كانت الإدارات الأميركية السابقة، كما وصفها رئيس الوفد الفلسطيني إلى المفاوضات، صائب عريقات، في كتابه «الحياة مفاوضات»، تصوغ لنفسها خطة، تتشاور بشأنها مع الجانب الإسرائيلي، وتخفيها عن الجانب الفلسطيني، وتعمل على «تقريب» وجهات النظر، بشأنها وتدعي في الوقت نفسه أنها لا تضغط على أحد، وأنها تعمل على إنجاح الطرفين في الوصول إلى حل. أي أن الولايات المتحدة كانت إلى طاولة المفاوضات، تمثل دور «الراعي النزيه»، لكنها في الميدان، تقدم كل الدعم للجانب الإسرائيلي لفرض وقائع على الأرض، تستبق نتائج المفاوضات في رسم ما يسمى ملامح وعلامات الحل الدائم، إن في تهويد القدس، أو رسم الحدود من خلال جدار الفصل، ورسم خارطة للمستوطنات التي تخطط لضمها في « الحل الدائم». يستثنى من هذا، الرئيس كلينتون الذي حاول الضغط على الرئيس عرفات في كامب ديفيد 2، وفشل، لذلك خرج الإسرائيليون ومعهم الأميركيون، يحملون الجانب الفلسطيني وحده مسؤولية فشل المفاوضات (!). لتكشف الصحافة الإسرائيلية هذه الكذبة الإسرائيلية الأميركية، ولتؤكد أن ما تم عرضه على الرئيس عرفات «لا يمكن لأي رئيس فلسطيني أن يقبل به».
أما إدارة ترامب فقد اتبعت استراتيجية جديدة وبديلة، تقوم على فرض الحل بالقوة على الجانب الفلسطيني وبما يخدم المصالح الاستعمارية الاستيطانية وأهداف المشروع الصهيوني. أي اعتمدت استراتيجية هجومية، تتولى، عن الجانب الإسرائيلي، فرض الوقائع على الأرض، من جانب واحد، وفي صدام كامل مع المصالح والحقوق الفلسطينية، في خطوات متلاحقة، هدفها تحضير المسرح الميداني لفرض «الحل» النهائي والدائم على الجانب الفلسطيني. «فحلت» قضية القدس بالاعتراف بها عاصمة لإسرائيل. و«حلت» قضية اللاجئين بنزع الصفة القانونية عنهم كلاجئين، وفرضت الحصار على وكالة الغوث لخنقها. و«حلت» قضية الاستيطان بأن شرعت ضم كل المستوطنات لإسرائيل. وحلت مصير الكيان الفلسطيني، من خلال توفير كل الشروط الضرورية لبناء «دولة إسرائيل الكبرى»، وإقامة، بالمقابل، كيان فلسطيني هزيل، لا يتجاوز حدود الحكم الإداري الذاتي، المقيد بسلسلة التزامات واستحقاقات سياسية وأمنية واقتصادية، تشكل الطبعة المنقحة لاتفاق أوسلو. وهكذا باتت الحالة الفلسطينية أمام وقائع جديدة. أمام معادلة سياسية محلية وإقليمية جديدة. خاصة إذا ما ربطنا بين تطبيقات «صفقة ترامب» في الميدان، وتطبيقات صفقته في المنطقة، من خلال هرولة بعض الأنظمة العربية للتطبيع مع إسرائيل، في اصطفاف إقليمي في مواجهة إيران وحلفائها.
يقول خبراء الميدان، أنه عندما يعيد العدو صياغة استراتيجيته وأدواته الحربية لخوض المعركة الفاصلة، وجب على الجهة المقابلة أن تعيد هي الأخرى النظر باستراتيجيتها وأدواتها الحربية، لتستجيب للمتغيرات المرتقبة في الميدان. ومن يتخلف عن هذه الخطوة، كمن يقود نفسه ويقود جيشه إلى الانتحار.
فهل أعادت السلطة الفلسطينية وقيادتها، النظر، باستراتيجيتها وأدواتها الدفاعية، لتنتقل من حالة السكون والمراوحة في المكان إلى الهجوم؟
في ميدان الانقسام من جهة، في مسؤولية مشتركة مع حركة حماس، في تعطيل التفاهمات الثنائية والجماعية، وتفسيرها وإعادة تفسيرها، وإطلاق النار عليها، ثم الانكشاف التام بالخروج عن هذه التفاهمات بخطوات وخطوات معاكسة، أرخت بظلالها السوداء على القضية الوطنية، حتى أن كثيرين باتوا على قناعة باستحالة العودة عن الانقسام، وأن الأمور ذاهبة نحو تأبيد الانفصال بين الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، وأننا بتنا أمام مرحلة عادت بنا إلى الوراء، في هاوية لا قعر لها.
..وفي إطار م.ت.ف، وبدلاً من احترام أسس الائتلاف الوطني الذي تقوم عليه العلاقات داخل المؤسسة الوطنية الجامعة، وبدلاً من احترام وتكريس مبدأ الشراكة الوطنية في المسؤولية في اتخاذ القرار الجماعي، واحترامه، واحترام تطبيقاته، وبدلاً من تمثيل وتماسك المؤسسة الوطنية الجامعة، باعتبارها الخندق الذي يتحصن فيه الشعب وقضيته تحت سقف برنامجه الوطني التوحيدي.. لجأت السلطة وقيادتها إلى سياسات ذات مردود عكسي، على الصعيد العام. فشنت حروبها المالية على المعارضة الوطنية لبرنامج أوسلو والتزاماته واستحقاقاته.
وشنت حروباً إعلامية ضد من يرفع لواء الإصلاح الديمقراطي وشعاراته. ووزعت الاتهامات يميناً ويساراً، وصولاً إلى التشكيك بوطنية شركاء فتح في م.ت.ف. وبارتباطهم بأجندات خارجية(!) لاوجود لها إلا في مخيلات أصحابها. واستمرت طويلاً في سياسة المناكفة والخطوات الكيدية، بعيداً عن أي منطق سياسي مفهوم، سوى أن هذا كله، لا يشكل سوى تعبيراً عن أزمة عميقة لدى من راهنوا على أوسلو، وراهنوا على الولايات المتحدة الأميركية، باعتبارها، هي صاحبة مفاتيح الحل.
(2)
بعد رحيل الرئيس عرفات، حسمت القيادة الرسمية موقفها لصالح استراتيجية تقوم على المفاوضات، تحت سقف أوسلو، وبرعاية الولايات المتحدة، خياراً سياسياً وحيداً. وأسقطت من حساباتها باقي الخيارات، وشددت على التزامها اتفاق أوسلو، وقيوده، في المقدمة منه، التنسيق الأمني الذي ارتفع إلى مستوى «القداسة».
هذا الرهان على الراعي الأميركي، وعلى أوسلو، وعلى المفاوضات خياراً وحيداً، أسقط من حساباته التجارب المرة التي عاشها الشعب الفلسطيني تحت سقف فضائح أوسلو وتطبيقاته، منذ التوقيع عليه في 13/9/1993، حتى رحيل الرئيس عرفات، في اعتقاد وتقدير متسرع، رأى الخلل في الإدارة الفلسطينية للعملية التفاوضية، وتغاضى بشكل كامل عن فساد اتفاق أوسلو نفسه، وضرورة تجاوزه، وتخطيه، لصالح استراتيجية بديلة، بدأت تطل برأسها مع اندلاع الانتفاضة الثانية، ووصول أوسلو إلى الطريق المسدود في مفاوضات كامب ديفيد،2 في تموز(يوليو)2000.
استمر الرهان على الراعي الأميركي في محطات صاعدة وهابطة، دون أن تتقدم العملية التفاوضية خطوة واحدة إلى الأمام. لقد أجاد المفاوض الإسرائيلي والراعي الأميركي استغلال حالة الوهن والضعف لدى المفاوض الفلسطيني، ولدى قيادته السياسية، وحول المفاوضات إلى عبث سياسي، تحت سقفه استمرت مشاريع الاستيطان، والتهويد، ومصادرة الأراضي، والقتل المتعمد للمواطنين، وتدمير الاقتصاد الفلسطيني (أو ما تبقى منه) وتعميق التحاقه بالاقتصاد الإسرائيلي، وأعيد بناء الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في السلطة الفلسطينية بما يستجيب لضرورات التنسيق الأمني و«قداسته».
ومع رحيل إدارة أميركية، ينتقل الرهان إلى الإدارة الأميركية اللاحقة. من بوش الابن، الذي اختتم أيامه الأخيرة بلقاء مع الرئيس عباس «ليعتذر» منه وله، أنه لم يفِ بوعده بقيام دولة فلسطينية في نهاية ولايته الثانية، كما وعد في مشروعه «لحل الدولتين»، متجاهلاً أنه هو من أجهض كل المحاولات الجادة للوصول إلى «حلول وسط»، منها «خطة خارطة الطريق» التي صادق بوش الإبن على إفراغها من مضمونها وتحويلها من مشروع للتطبيق المتلازم، إلى مجرد خطة لتغطية مشروع شارون للحل من طرف واحد، يقضي على مقومات البرنامج الوطني وشروط نجاحه..
.. إلى باراك أوباما، الذي افتتح عهده باعتبار قيام الدولة الفلسطينية مصلحة قومية أميركية عليا، لأنها، وعبرها، تعاد صياغات المعادلات الإقليمية، والعربية – الإسرائيلية، لصالح تكريس النفوذ الأميركي في المنطقة، وليس لأن قيام الدولة الفلسطينية استجابة للحقوق الوطنية المشروعة لشعب فلسطين وفي مقدمها حقه في تقرير المصير. ورحل أوباما، ورحل معه وزير خارجيته جون كبرى، وهو يغلي غضباً، محملاً نتنياهو مسؤولية إفشاله في صناعة «حل تاريخي» للصراع في المنطقة. إلى أن حلت إدارة ترامب بسيرتها العجائبية.
(3)
سبقت وصول إدارة ترامب إلى البيت الأبيض تصريحاته الواضحة والصريحة والفجة، حول الحل في المنطقة، بما يلبي المصالح الإسرائيلية وعلى حساب المصالح الوطنية الفلسطينية. ومع ذلك تواصل الرهان على دور الإدارة الأميركية لإنقاذ المفاوضات من البئر العميقة التي أغرقها فيها تطبيقات وتوازنات أوسلو.
تصاعدت المواقف الأميركية عداء لشعب فلسطين وقضيته وحقوقه الوطنية، وبات واضحاً أن الإدارة الأميركية تحمل في جعبتها «جديداً» فعلاً، يدخل في باب التغيير الاستراتيجي، وليس من باب التغيير التكتيكي. فلا الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة على حدود 4 حزيران (67) باتت مطروحة. ولا «حل الدولتين» كما طرحه بوش الإبن، وتدعو له الرباعية الدولية والاتحاد الأوروبي، وتتمسك بتلابيبه السلطة الفلسطينية، بات هو الآخر مطروحاً.
أما الدولة الواحدة التي دغدغت آمال البعض ممن فقد القدرة على الرؤية الواضحة، وتوفير الحل المباشر والميداني، فهرول إلى الأمام ليقدم الدولة الواحدة حلاً للقضية وقد أوهمته المظاهر المزيفة في أن ما يقوم به نتنياهو سيقود حتماً إلى الدولة الواحدة، غير مدرك لخفايا السياسية والخطة الإسرائيلية، ومدى قدره حكومة اليمين واليمين المتطرف على خلف الوقائع، تصب كلها في خدمة «إسرائيل الكبرى»، وتعكس في الجانب الآخر، بناء السدود العالية أمام قيام الدولة الفلسطينية. ومع ذلك بقي رهان السلطة وقيادتها على الدور الأميركي، وعلى حل الدولتين. إلى أن أطلقت «صفقة العصر»، و واكبها «قانون القومية» العنصري ليقولا بفم واحد، لغة واحدة ما يلي:
• لا للدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس على حدود 4 حزيران 67، ولا لحق العودة للاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها منذ العام 1948.
• ولا «لحل الدولتين». فلا دولة ثالثة بين نهر الأردن وبين دولة إسرائيل.
• ولا «دولة واحدة» يكون من شأنها أن تلغي «يهودية» إسرائيل، وبعد أن أقر «قانون القومية» حق تقرير المصير لليهود حصراً، و«نزعه» عن الشعب الفلسطيني.
وبالتالي باتت القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية أمام مشروع استراتيجي واضح المعالم لتصفية المسألة الفلسطينية.
كما باتت أمام استراتيجية أميركية من نوع آخر، تختلف عن استراتيجيات الإدارات السابقة التي مرت على البيت الأبيض.
(4)
كانت الإدارات الأميركية السابقة، كما وصفها رئيس الوفد الفلسطيني إلى المفاوضات، صائب عريقات، في كتابه «الحياة مفاوضات»، تصوغ لنفسها خطة، تتشاور بشأنها مع الجانب الإسرائيلي، وتخفيها عن الجانب الفلسطيني، وتعمل على «تقريب» وجهات النظر، بشأنها وتدعي في الوقت نفسه أنها لا تضغط على أحد، وأنها تعمل على إنجاح الطرفين في الوصول إلى حل. أي أن الولايات المتحدة كانت إلى طاولة المفاوضات، تمثل دور «الراعي النزيه»، لكنها في الميدان، تقدم كل الدعم للجانب الإسرائيلي لفرض وقائع على الأرض، تستبق نتائج المفاوضات في رسم ما يسمى ملامح وعلامات الحل الدائم، إن في تهويد القدس، أو رسم الحدود من خلال جدار الفصل، ورسم خارطة للمستوطنات التي تخطط لضمها في « الحل الدائم». يستثنى من هذا، الرئيس كلينتون الذي حاول الضغط على الرئيس عرفات في كامب ديفيد 2، وفشل، لذلك خرج الإسرائيليون ومعهم الأميركيون، يحملون الجانب الفلسطيني وحده مسؤولية فشل المفاوضات (!). لتكشف الصحافة الإسرائيلية هذه الكذبة الإسرائيلية الأميركية، ولتؤكد أن ما تم عرضه على الرئيس عرفات «لا يمكن لأي رئيس فلسطيني أن يقبل به».
أما إدارة ترامب فقد اتبعت استراتيجية جديدة وبديلة، تقوم على فرض الحل بالقوة على الجانب الفلسطيني وبما يخدم المصالح الاستعمارية الاستيطانية وأهداف المشروع الصهيوني. أي اعتمدت استراتيجية هجومية، تتولى، عن الجانب الإسرائيلي، فرض الوقائع على الأرض، من جانب واحد، وفي صدام كامل مع المصالح والحقوق الفلسطينية، في خطوات متلاحقة، هدفها تحضير المسرح الميداني لفرض «الحل» النهائي والدائم على الجانب الفلسطيني. «فحلت» قضية القدس بالاعتراف بها عاصمة لإسرائيل. و«حلت» قضية اللاجئين بنزع الصفة القانونية عنهم كلاجئين، وفرضت الحصار على وكالة الغوث لخنقها. و«حلت» قضية الاستيطان بأن شرعت ضم كل المستوطنات لإسرائيل. وحلت مصير الكيان الفلسطيني، من خلال توفير كل الشروط الضرورية لبناء «دولة إسرائيل الكبرى»، وإقامة، بالمقابل، كيان فلسطيني هزيل، لا يتجاوز حدود الحكم الإداري الذاتي، المقيد بسلسلة التزامات واستحقاقات سياسية وأمنية واقتصادية، تشكل الطبعة المنقحة لاتفاق أوسلو. وهكذا باتت الحالة الفلسطينية أمام وقائع جديدة. أمام معادلة سياسية محلية وإقليمية جديدة. خاصة إذا ما ربطنا بين تطبيقات «صفقة ترامب» في الميدان، وتطبيقات صفقته في المنطقة، من خلال هرولة بعض الأنظمة العربية للتطبيع مع إسرائيل، في اصطفاف إقليمي في مواجهة إيران وحلفائها.
يقول خبراء الميدان، أنه عندما يعيد العدو صياغة استراتيجيته وأدواته الحربية لخوض المعركة الفاصلة، وجب على الجهة المقابلة أن تعيد هي الأخرى النظر باستراتيجيتها وأدواتها الحربية، لتستجيب للمتغيرات المرتقبة في الميدان. ومن يتخلف عن هذه الخطوة، كمن يقود نفسه ويقود جيشه إلى الانتحار.
فهل أعادت السلطة الفلسطينية وقيادتها، النظر، باستراتيجيتها وأدواتها الدفاعية، لتنتقل من حالة السكون والمراوحة في المكان إلى الهجوم؟
أضف تعليق