سوق البزورية في دمشق.. تُحلّي وتُعطر وتُداوي أيضا
دمشق (الاتجاه الديمقراطي)
البزورية حي من أحياء دمشق القديمة معروف بعراقته وسوقه الأثري الممتد على طول كيلومتر من دمشق القديمة في منطقة الدقاقين والشاغور حتى الجامع الأموي المجاور لقصر العظم وحي الحمراوي.
للتحلية والتسلية
تشتهر دمشق بالأسواق التاريخية، حيث تحتضن إلى جانب سوقِ الحميدية الشهير، أسواقا أخرى، منها سوق البزورية التي تستقبل الزبائن والعابرين بروائح توابلها والفواكه المجففة والتوابل والسكاكر والملبّس الدمشقي، والأعشاب الطبية المنتقاة بعناية والعطورات، بالإضافة إلى ذلك، هناك وصفات طبية أو سحرية يروج عطارو البزورية لها على أنها أنجع من علاجات الطب الحديث.
دمشق - للأماكن روائح تشبهها، وفي سوق البزورية في دمشق تختلط روائح العطورات مع روائح الأزهار والأعشاب والتوابل والبهارات لتدل الزائر مع حوانيتها الحجرية وخاناتها الأثرية وأرضيتها المرصوفة على أنه في أقدم عاصمة مأهولة.
ويباع في السوق كل ما له علاقة بالأفراح من علب الأفراح والشموع، وأنواع متعددة من السكاكر والشكولاتة والراحة والنوغا المحشوة بالفستق الحلبي بأشكال ونكهات مختلفة، والسكر نبات وغزل البنات، وأنواع متعددة من العصائر الطبيعية سواء السائلة المكثفة مثل شراب التوت الشامي والورد أو الجافة على شكل مسحوق معبأ بأكياس وعلب، والعرقسوس والتمر الهندي، ولا ننسى رقائق قمر الدين المصنوع من المشمش، وأنواع مختلفة من الفواكه المجففة وعادة ما تكون من المشمش والتفاح والإجاص والجوز والكباد والبرتقال وغيرها من الفواكه المغلية بالسكر والمغطاة بطبقة من الجيلاتين، كما تباع فيه الأعشاب والنباتات والأزهار الطبية الجافة وتباع أيضا المربيات بأنواعها.
ولنزار قباني حكاية مع هذا السوق حيث يقول، «في كل مرة أتسكع في سوق البزورية تخيّم فوقي غمامة من عطر الفانيليا تنسيني جورجو أرماني بحد ذاته.. في دمشق ظواهر غريبة كثيرة تستعصي علي وما زالت وأظن أن سوق البزورية أكثرها غرابة وأكثرها استعصاء».
وإذا كان هناك طلب طوال العام على كل محتويات السوق، فإن هناك ذروة لكل نوع من أنواع البضاعة، ففي رمضان، كما في المناسبات تزدهر تجارة المكسرات والملبس والحلويات، لأنها تقدم كضيافة في جميع المناسبات الاجتماعية السعيدة، ويزداد الطلب عليها أواخر أيام رمضان لأنها جزء مهم من ضيافة العيد.
تخصص آخر يزداد الطلب عليه في رمضان أيضا، هو البهارات التي تحتاجها كل مائدة، وكذلك البقوليات التي لا غنى عنها في المائدة الرمضانية. أما في الشتاء، فتجد الكستناء والتين، والكراوية وغيرها من الفواكه الجافة التي تجتمع عليها العائلات الدمشقية في السهرات حول المدفأة، كما تزدهر حركة عطاري الأعشاب الطبية، لأن الكثير من السوريين يقاوم أمراض الشتاء بخلطات من الأعشاب تعلموها من الآباء والأجداد.
والبزورية حي من أحياء دمشق القديمة معروف بعراقته وسوقه الأثري الممتد على طول كيلومتر من دمشق القديمة في منطقة الدقاقين والشاغور حتى الجامع الأموي المجاور لقصر العظم وحي الحمراوي، ويتجاوز عمره نحو 270 سنة على حد قول محمد دركل أحد أشهر تجار البزورية الذي يقول، «إن السوق يمتد من قصر العظم إلى سوق الصاغة القديم، ويضم أكثر من 150 متجرا والعديد توارثها الأبناء عن الآباء».
ويعرف عن تجار الأسواق الدمشقية أنهم نجحوا لعدة خصال تميزهم أهمها، اجتهادهم ودماثة أخلاقهم والنكتة والمثابرة وحب الخير حتى لمن ينافسهم، وقد وضع أحد التجار في سوق البزورية عبارة «الرجاء عدم اللمس والتذوق»، وأثارت هذه العبارة كثيراً من ذكريات السوريين وأوجاعهم وبعض السخط على ما اعتبروه تخليا عن أخلاقيات متبعة في التعامل مع الزبائن لطالما كانت معيارا عاما يميز تجار السوق الدمشقي.
وقالت إحدى ناشطات مواقع التواصل الاجتماعي، «منذ متى هذه الحكاية، على امتداد عمر بائعي البزورية الكرام يعرضون بضاعتهم ويعرضون على الناس التذوق».
للشتاء طعم دافئ في السوق
تنتعش سوق البزورية كثيرا في الشتاء ببيع مكدوس الباذنجان المحشو بالجوز والفلفل الأحمر وزيت الزيتون البلدي، وهي من المواد التي تحرص كل عائلة سورية على التموين منها لفصل الشتاء، حيث تقبل ربات البيوت على شراء الجوز وخاصة البلدي من هذا السوق بالذات الذي ما زال يكسب ثقتهن وكذلك شراء التمر الهندي والعرقسوس، والتين المجفف الذي يتفنن البائعون في السوق والجوالون منهم في تعليقه بالحبال وإطلاق العبارات اللطيفة لجذب الزبائن لشرائه منها «يا عسل يا تين يا حلو الدراويش».
يقول أحمد الحناوي، أحد بائعي التين المجفف في السوق، إن «التين من المواد الغذائية التي تمنح الطاقة وخاصة في فصل الشتاء ورغم تعدد أنواع الحلويات ما زال الناس يعشقون هذا الصنف الطبيعي ويستخدمونه في الوصفات الطبية الشعبية».
ويضيف، أن «التين يقدم في الريف كحلوى بديلة عن الحلوى الصناعية حيث يرش على طبق التين المجفف بعضا من الطحينة الشامية».
ويتفنن التجار أيضا في عرض الكستناء، ويسميها السوريون فاكهة الشتاء لفوائدها العديدة، كما تسمى أيضا رفيقة الساهرين ومسلية الباحثين عن المذاق اللذيذ في ليالي الشتاء الطويلة، ويطلقون عليها خليلة مواقد ومدافئ الحطب والمازوت، حيث تعطيها المدفأة نارها بشكلها اللطيف أما هي فتعطيها منظرا جميلا عندما تشوى على سطح المدفأة.
ويعرض التجار أيضا الكراوية الشامية المشهورة في سوريا والعالم فهي طيبة المذاق والنكهة وتستخدم للضيافة بعد الولادة وخاصة في فصل الشتاء، ويطلق عليها السوريون اسم مشروب استقبال المولود الجديد حيث تقدمه النساء للضيوف بعد ولادتهن فيما تستخدمه أخريات في صناعة الحلويات والخبز والفطائر أو يضعنه في الأجبان والحساء لنكهته المميزة والفاتحة للشهيّة.
تشير أمل حمشو، إلى أنّ من أجمل ذكريات طفولتها كانت التسوق من البزورية، وتحديدا لشراء الكراوية والملبس للمناسبات، ومازالت تأتي إلى السوق مع أبنائها في كل فرصة لشراء حاجياتها.
صيادلة في حوانيت
يقول منذر العابدين أحد أشهر التجار في السوق، «تحتوي سوق البزورية على عدة أسواق صغيرة تعتبر فروعا متخصصة، منها سوق العطارين التي تتميز بـالحوانيت الصغيرة التي تنتشر على الجانبين والمختصة ببيع الأعشاب الطبية والخلطات الغريبة والقوارير التي تحتوي بداخلها حبيبات لها أشكال غريبة وألوان متعددة، وتحمل أسماء مختلفة، ومنها ما يدعى عين الديك ذات اللون الأحمر، إضافة إلى بقايا الحيوانات المعلقة بحبال على واجهة الحوانيت، والحيوانات البحرية، والإسفنجيات، ونجمة البحر، والقواقع، والأصداف، والتي لا تزال حتى الآن تشكل علاجا لبعض كبار السن الذين لا يعرفون إلا طريق العطارين عند مرضهم، أو لبعض من الناس التي تؤمن بالفوائد الخارقة والسحرية لوصفات العطارين السحرية».
ويتوارث العمل في هذه الحوانيت التي تشبه الصيدليات في مهماتها أجيال عن أجيال وكأنها درست الطب الشعبي عن بعضها البعض، فالحوانيت الموجودة في سوق العطارين تعود جميعها إلى عائلات دمشقية معروفة منها العطار، وزين العابدين.
يقول التاجر عمر الخطيب، «ورثت هذا المحل من أبي الذي ورثه من جده، ومنذ المئات من السنين وعائلتي تعمل بالأعشاب الطبية إيمانا منا بقيمتها، وبالفائدة التي تعود بالنفع على المتداوين بها، ولسنا الوحيدين في السوق الذين توارثنا المهنة، فالحوانيت الموجودة تعود جميعها إلى عائلات دمشقية معروفة توارث أفرادها هذه المهنة منذ مئات السنين».
ويتابع، «طب الأعشاب برع فيه الآباء والأجداد منذ القدم، وعالجوا بالأعشاب أمراضا كثيرة، كما أن لها فوائد كبيرة إضافة إلى عدم تسببها بأي أعراض جانبية كما هي الحال في الأدوية الكيميائية».
ويقول زياد العطار صاحب محل «كهرمان» لبيع التوابل والبهارات، إن المحل عمره أكثر من خمسين عاما وكان مطحنة للملح ومع الأيام اختص ببيع التوابل والبهارات. ويضيف العطار، أنه «لم يكتف بالبيع فقط، بل تعمق بعمله ودرس فائدة كل نبتة من النباتات التي يحضرها إلى محله».
ويشرح، «أن محله الذي أطلق عليه اسم كهرمان اشتهر بخلطة يقوم بتطبيقها وبيعها في فصل الشتاء وهناك إقبال كبير عليها وهي مكونة من سبعة أصناف من الأعشاب والنباتات الطبية والعطرية منها المليسة والبابونج والورد والختمية وورق الزعتر وزهرة الربيع ولسان العصفور وإكليل الجبل والزيزفون، وهي شراب مفضل لدى الكثيرين، وتستخدم لوقاية المجاري التنفسية والصدر من الأمراض والمساعدة في شفائها من الالتهابات التي تكثر في فصل الشتاء».
ويتابع العطار، «أن أغلب الناس ما زالت تؤمن بالطب الشعبي الذي أساسه الأعشاب حيث يرتاد محلي زبائن كثر ويطلبون أعشابا لمعالجة أمراض يعانون منها مثل زهرة الألماسة التي تستخدم لمعالجة الرمل وشباشيل الذرة وعناكيز الكرز لمعالجة البحصة». يقول أحمد حديدي الذي يرتاد سوق البزورية، «آتي إلى هنا كي أشتري الأعشاب الطبيعية، حيث يضم السوق تشكيلة واسعة من المواد التي تكاد تشفي من جميع الأمراض، فكل ما تريده من الأعشاب والنباتات الطبية تجده هنا وبأسعار جيدة ومقبولة، أضف إلى ذلك وجود بعض العطارين المشهورين في السوق؛ الذين يقومون بإعطائك الوصفات الطبية المفيدة».
وتلجأ أم السعد بشكل دائم إلى محلات العطارة لشراء بعض الأعشاب، مثل البابونج والزهورات لاستخدامها أثناء حالات الرشح والزكام وخاصة في فصل الشتاء.
عطور تفوح في كل العالم
عُرف السوق سابقا باسم سوق القمح ثم سوق الدهيناتية، إذ كانت تصنع فيه سائر الزيوت كزيت اللوز، ومن ثم عرف باسم العطارين، لأنه كانت تباع فيه العطور المستخرجة من الورود الدمشقية، ليستقر في الأخير على اسمه الحالي، البزورية.
وانتشر زيت عطر الوردة الشامية والياسمين في العالم، وهو من أغلى الزيوت العطرية ثمنا، وما زالت بيوت الماركات العطرية المشهورة تصنع أفخم أنواع العطور مستخدمة الزيوت العطرية الشامية.
يقول زاهر الرفاعي أحد حرفيي صناعة العطور لوكالة الأنباء السورية (سانا)، «إن الأيدي السورية استطاعت ابتكار وتركيب أجمل العطور من بنك الزيوت العطرية الدمشقية الذي منحته للعالم». ويضيف، أنه «أخذ حرفته أبا عن جد، مؤكدا أن العطارة الدمشقية حرفة عريقة جدا عمل فيها الكثير من الدمشقيين كما أنّ التجار ابتاعوا الزيوت العطرية من دمشق كمادة أولية لتركيب العطور منذ المئات من السنين».
وبيّن الرفاعي، أن أفخم بيوت إنتاج العطور عالميا تستخدم الزيوت العطرية المستخرجة من الزهور الشامية مثل زيت الزنبق والفل والياسمين والوردة الدمشقية المنسوبة عالميا إلى المدينة وسمي العطر قديما بـ«الريحة»، حيث كان الأثرياء من زوار دمشق حينذاك يبتاعون زجاجة ريحة من أسواقها كهدية مميزة لأقاربهم ويفتخرون بها لأنهم جلبوها من أرض الياسمين لؤلؤ الشام.
وشهدت صناعة العطور تطورات كثيرة في عدة مراحل حيث أصبح العطارون يمزجون زيت العطر مع زيت الأعشاب، وأصبح هنالك ثلاثة أنواع من الزيوت العطرية منها للاستعمال الشخصي وعطور صناعية، إضافة إلى مركزات عطرية تستخدم في تنكيه الأغذية.
ويشير الرفاعي إلى أن العطور الفرنسية قد انتشرت بعد اكتشاف مادة الكحول كمثبت وممدد للزيت العطري، وأصبح هناك ثورة في عالم العطور حيث طغى الاسم الفرنسي على العطور الممدة عالميا فسمي «أودتواليت»، أو «بارفان».
أما عن أهم العطور المشهورة والمتداولة حاليا فهو عطر «الستادا» المفضل لدى جيل شابات اليوم و«اللا غوست» للشبان الذين تتجه أذواقهم في العطور إلى روائح الليمون أو بعض روائح التوابل أو الأخشاب العطرية مثل العود، لكن الشابات يملن إلى القرب من رائحة الفواكه، وبالنسبة إلى الجيل القديم، فهم يفضلون الروائح التقليدية القديمة مثل عطر الياسمين والفل والزنبق.
تقول السيدة لميس الصفدي عن العطور الدمشقية، «هي عطور جميلة ورائعة وأنا أفضّل منها العطر برائحة الياسمين لأنها جميلة ومحببة لكل النفوس».
ويؤكد موسى القصير إقبال السوريين على العطور الدمشقية قائلا، «أجد أن رائحة الزهور زكية وتنعش القلب لذلك غالباً ما اختار عطور دمشقية برائحة الزهور كالفل أو الياسمين، ولكوني مدخناً فعلبة العطر موجودة معي دائماً للتخفيف من رائحة الدخان غير المرغوب بها».
وبالإضافة إلى ما يقدمه سوق البزورية من بضائع مختلفة في حوانيته الصغيرة، يضم أجمل منشأتين معماريتين قديمتين في العاصمة السورية هما، «خان أسعد باشا»، أكبر خانات دمشق القديمة، بل وأجمل خانات الشرق الأوسط و«حمام نورالدين الشهيد» أشهر حمام دمشقي مازال يستقبل زواره حتى الآن.
البزورية حي من أحياء دمشق القديمة معروف بعراقته وسوقه الأثري الممتد على طول كيلومتر من دمشق القديمة في منطقة الدقاقين والشاغور حتى الجامع الأموي المجاور لقصر العظم وحي الحمراوي.
للتحلية والتسلية
تشتهر دمشق بالأسواق التاريخية، حيث تحتضن إلى جانب سوقِ الحميدية الشهير، أسواقا أخرى، منها سوق البزورية التي تستقبل الزبائن والعابرين بروائح توابلها والفواكه المجففة والتوابل والسكاكر والملبّس الدمشقي، والأعشاب الطبية المنتقاة بعناية والعطورات، بالإضافة إلى ذلك، هناك وصفات طبية أو سحرية يروج عطارو البزورية لها على أنها أنجع من علاجات الطب الحديث.
دمشق - للأماكن روائح تشبهها، وفي سوق البزورية في دمشق تختلط روائح العطورات مع روائح الأزهار والأعشاب والتوابل والبهارات لتدل الزائر مع حوانيتها الحجرية وخاناتها الأثرية وأرضيتها المرصوفة على أنه في أقدم عاصمة مأهولة.
ويباع في السوق كل ما له علاقة بالأفراح من علب الأفراح والشموع، وأنواع متعددة من السكاكر والشكولاتة والراحة والنوغا المحشوة بالفستق الحلبي بأشكال ونكهات مختلفة، والسكر نبات وغزل البنات، وأنواع متعددة من العصائر الطبيعية سواء السائلة المكثفة مثل شراب التوت الشامي والورد أو الجافة على شكل مسحوق معبأ بأكياس وعلب، والعرقسوس والتمر الهندي، ولا ننسى رقائق قمر الدين المصنوع من المشمش، وأنواع مختلفة من الفواكه المجففة وعادة ما تكون من المشمش والتفاح والإجاص والجوز والكباد والبرتقال وغيرها من الفواكه المغلية بالسكر والمغطاة بطبقة من الجيلاتين، كما تباع فيه الأعشاب والنباتات والأزهار الطبية الجافة وتباع أيضا المربيات بأنواعها.
ولنزار قباني حكاية مع هذا السوق حيث يقول، «في كل مرة أتسكع في سوق البزورية تخيّم فوقي غمامة من عطر الفانيليا تنسيني جورجو أرماني بحد ذاته.. في دمشق ظواهر غريبة كثيرة تستعصي علي وما زالت وأظن أن سوق البزورية أكثرها غرابة وأكثرها استعصاء».
وإذا كان هناك طلب طوال العام على كل محتويات السوق، فإن هناك ذروة لكل نوع من أنواع البضاعة، ففي رمضان، كما في المناسبات تزدهر تجارة المكسرات والملبس والحلويات، لأنها تقدم كضيافة في جميع المناسبات الاجتماعية السعيدة، ويزداد الطلب عليها أواخر أيام رمضان لأنها جزء مهم من ضيافة العيد.
تخصص آخر يزداد الطلب عليه في رمضان أيضا، هو البهارات التي تحتاجها كل مائدة، وكذلك البقوليات التي لا غنى عنها في المائدة الرمضانية. أما في الشتاء، فتجد الكستناء والتين، والكراوية وغيرها من الفواكه الجافة التي تجتمع عليها العائلات الدمشقية في السهرات حول المدفأة، كما تزدهر حركة عطاري الأعشاب الطبية، لأن الكثير من السوريين يقاوم أمراض الشتاء بخلطات من الأعشاب تعلموها من الآباء والأجداد.
والبزورية حي من أحياء دمشق القديمة معروف بعراقته وسوقه الأثري الممتد على طول كيلومتر من دمشق القديمة في منطقة الدقاقين والشاغور حتى الجامع الأموي المجاور لقصر العظم وحي الحمراوي، ويتجاوز عمره نحو 270 سنة على حد قول محمد دركل أحد أشهر تجار البزورية الذي يقول، «إن السوق يمتد من قصر العظم إلى سوق الصاغة القديم، ويضم أكثر من 150 متجرا والعديد توارثها الأبناء عن الآباء».
ويعرف عن تجار الأسواق الدمشقية أنهم نجحوا لعدة خصال تميزهم أهمها، اجتهادهم ودماثة أخلاقهم والنكتة والمثابرة وحب الخير حتى لمن ينافسهم، وقد وضع أحد التجار في سوق البزورية عبارة «الرجاء عدم اللمس والتذوق»، وأثارت هذه العبارة كثيراً من ذكريات السوريين وأوجاعهم وبعض السخط على ما اعتبروه تخليا عن أخلاقيات متبعة في التعامل مع الزبائن لطالما كانت معيارا عاما يميز تجار السوق الدمشقي.
وقالت إحدى ناشطات مواقع التواصل الاجتماعي، «منذ متى هذه الحكاية، على امتداد عمر بائعي البزورية الكرام يعرضون بضاعتهم ويعرضون على الناس التذوق».
للشتاء طعم دافئ في السوق
تنتعش سوق البزورية كثيرا في الشتاء ببيع مكدوس الباذنجان المحشو بالجوز والفلفل الأحمر وزيت الزيتون البلدي، وهي من المواد التي تحرص كل عائلة سورية على التموين منها لفصل الشتاء، حيث تقبل ربات البيوت على شراء الجوز وخاصة البلدي من هذا السوق بالذات الذي ما زال يكسب ثقتهن وكذلك شراء التمر الهندي والعرقسوس، والتين المجفف الذي يتفنن البائعون في السوق والجوالون منهم في تعليقه بالحبال وإطلاق العبارات اللطيفة لجذب الزبائن لشرائه منها «يا عسل يا تين يا حلو الدراويش».
يقول أحمد الحناوي، أحد بائعي التين المجفف في السوق، إن «التين من المواد الغذائية التي تمنح الطاقة وخاصة في فصل الشتاء ورغم تعدد أنواع الحلويات ما زال الناس يعشقون هذا الصنف الطبيعي ويستخدمونه في الوصفات الطبية الشعبية».
ويضيف، أن «التين يقدم في الريف كحلوى بديلة عن الحلوى الصناعية حيث يرش على طبق التين المجفف بعضا من الطحينة الشامية».
ويتفنن التجار أيضا في عرض الكستناء، ويسميها السوريون فاكهة الشتاء لفوائدها العديدة، كما تسمى أيضا رفيقة الساهرين ومسلية الباحثين عن المذاق اللذيذ في ليالي الشتاء الطويلة، ويطلقون عليها خليلة مواقد ومدافئ الحطب والمازوت، حيث تعطيها المدفأة نارها بشكلها اللطيف أما هي فتعطيها منظرا جميلا عندما تشوى على سطح المدفأة.
ويعرض التجار أيضا الكراوية الشامية المشهورة في سوريا والعالم فهي طيبة المذاق والنكهة وتستخدم للضيافة بعد الولادة وخاصة في فصل الشتاء، ويطلق عليها السوريون اسم مشروب استقبال المولود الجديد حيث تقدمه النساء للضيوف بعد ولادتهن فيما تستخدمه أخريات في صناعة الحلويات والخبز والفطائر أو يضعنه في الأجبان والحساء لنكهته المميزة والفاتحة للشهيّة.
تشير أمل حمشو، إلى أنّ من أجمل ذكريات طفولتها كانت التسوق من البزورية، وتحديدا لشراء الكراوية والملبس للمناسبات، ومازالت تأتي إلى السوق مع أبنائها في كل فرصة لشراء حاجياتها.
صيادلة في حوانيت
يقول منذر العابدين أحد أشهر التجار في السوق، «تحتوي سوق البزورية على عدة أسواق صغيرة تعتبر فروعا متخصصة، منها سوق العطارين التي تتميز بـالحوانيت الصغيرة التي تنتشر على الجانبين والمختصة ببيع الأعشاب الطبية والخلطات الغريبة والقوارير التي تحتوي بداخلها حبيبات لها أشكال غريبة وألوان متعددة، وتحمل أسماء مختلفة، ومنها ما يدعى عين الديك ذات اللون الأحمر، إضافة إلى بقايا الحيوانات المعلقة بحبال على واجهة الحوانيت، والحيوانات البحرية، والإسفنجيات، ونجمة البحر، والقواقع، والأصداف، والتي لا تزال حتى الآن تشكل علاجا لبعض كبار السن الذين لا يعرفون إلا طريق العطارين عند مرضهم، أو لبعض من الناس التي تؤمن بالفوائد الخارقة والسحرية لوصفات العطارين السحرية».
ويتوارث العمل في هذه الحوانيت التي تشبه الصيدليات في مهماتها أجيال عن أجيال وكأنها درست الطب الشعبي عن بعضها البعض، فالحوانيت الموجودة في سوق العطارين تعود جميعها إلى عائلات دمشقية معروفة منها العطار، وزين العابدين.
يقول التاجر عمر الخطيب، «ورثت هذا المحل من أبي الذي ورثه من جده، ومنذ المئات من السنين وعائلتي تعمل بالأعشاب الطبية إيمانا منا بقيمتها، وبالفائدة التي تعود بالنفع على المتداوين بها، ولسنا الوحيدين في السوق الذين توارثنا المهنة، فالحوانيت الموجودة تعود جميعها إلى عائلات دمشقية معروفة توارث أفرادها هذه المهنة منذ مئات السنين».
ويتابع، «طب الأعشاب برع فيه الآباء والأجداد منذ القدم، وعالجوا بالأعشاب أمراضا كثيرة، كما أن لها فوائد كبيرة إضافة إلى عدم تسببها بأي أعراض جانبية كما هي الحال في الأدوية الكيميائية».
ويقول زياد العطار صاحب محل «كهرمان» لبيع التوابل والبهارات، إن المحل عمره أكثر من خمسين عاما وكان مطحنة للملح ومع الأيام اختص ببيع التوابل والبهارات. ويضيف العطار، أنه «لم يكتف بالبيع فقط، بل تعمق بعمله ودرس فائدة كل نبتة من النباتات التي يحضرها إلى محله».
ويشرح، «أن محله الذي أطلق عليه اسم كهرمان اشتهر بخلطة يقوم بتطبيقها وبيعها في فصل الشتاء وهناك إقبال كبير عليها وهي مكونة من سبعة أصناف من الأعشاب والنباتات الطبية والعطرية منها المليسة والبابونج والورد والختمية وورق الزعتر وزهرة الربيع ولسان العصفور وإكليل الجبل والزيزفون، وهي شراب مفضل لدى الكثيرين، وتستخدم لوقاية المجاري التنفسية والصدر من الأمراض والمساعدة في شفائها من الالتهابات التي تكثر في فصل الشتاء».
ويتابع العطار، «أن أغلب الناس ما زالت تؤمن بالطب الشعبي الذي أساسه الأعشاب حيث يرتاد محلي زبائن كثر ويطلبون أعشابا لمعالجة أمراض يعانون منها مثل زهرة الألماسة التي تستخدم لمعالجة الرمل وشباشيل الذرة وعناكيز الكرز لمعالجة البحصة». يقول أحمد حديدي الذي يرتاد سوق البزورية، «آتي إلى هنا كي أشتري الأعشاب الطبيعية، حيث يضم السوق تشكيلة واسعة من المواد التي تكاد تشفي من جميع الأمراض، فكل ما تريده من الأعشاب والنباتات الطبية تجده هنا وبأسعار جيدة ومقبولة، أضف إلى ذلك وجود بعض العطارين المشهورين في السوق؛ الذين يقومون بإعطائك الوصفات الطبية المفيدة».
وتلجأ أم السعد بشكل دائم إلى محلات العطارة لشراء بعض الأعشاب، مثل البابونج والزهورات لاستخدامها أثناء حالات الرشح والزكام وخاصة في فصل الشتاء.
عطور تفوح في كل العالم
عُرف السوق سابقا باسم سوق القمح ثم سوق الدهيناتية، إذ كانت تصنع فيه سائر الزيوت كزيت اللوز، ومن ثم عرف باسم العطارين، لأنه كانت تباع فيه العطور المستخرجة من الورود الدمشقية، ليستقر في الأخير على اسمه الحالي، البزورية.
وانتشر زيت عطر الوردة الشامية والياسمين في العالم، وهو من أغلى الزيوت العطرية ثمنا، وما زالت بيوت الماركات العطرية المشهورة تصنع أفخم أنواع العطور مستخدمة الزيوت العطرية الشامية.
يقول زاهر الرفاعي أحد حرفيي صناعة العطور لوكالة الأنباء السورية (سانا)، «إن الأيدي السورية استطاعت ابتكار وتركيب أجمل العطور من بنك الزيوت العطرية الدمشقية الذي منحته للعالم». ويضيف، أنه «أخذ حرفته أبا عن جد، مؤكدا أن العطارة الدمشقية حرفة عريقة جدا عمل فيها الكثير من الدمشقيين كما أنّ التجار ابتاعوا الزيوت العطرية من دمشق كمادة أولية لتركيب العطور منذ المئات من السنين».
وبيّن الرفاعي، أن أفخم بيوت إنتاج العطور عالميا تستخدم الزيوت العطرية المستخرجة من الزهور الشامية مثل زيت الزنبق والفل والياسمين والوردة الدمشقية المنسوبة عالميا إلى المدينة وسمي العطر قديما بـ«الريحة»، حيث كان الأثرياء من زوار دمشق حينذاك يبتاعون زجاجة ريحة من أسواقها كهدية مميزة لأقاربهم ويفتخرون بها لأنهم جلبوها من أرض الياسمين لؤلؤ الشام.
وشهدت صناعة العطور تطورات كثيرة في عدة مراحل حيث أصبح العطارون يمزجون زيت العطر مع زيت الأعشاب، وأصبح هنالك ثلاثة أنواع من الزيوت العطرية منها للاستعمال الشخصي وعطور صناعية، إضافة إلى مركزات عطرية تستخدم في تنكيه الأغذية.
ويشير الرفاعي إلى أن العطور الفرنسية قد انتشرت بعد اكتشاف مادة الكحول كمثبت وممدد للزيت العطري، وأصبح هناك ثورة في عالم العطور حيث طغى الاسم الفرنسي على العطور الممدة عالميا فسمي «أودتواليت»، أو «بارفان».
أما عن أهم العطور المشهورة والمتداولة حاليا فهو عطر «الستادا» المفضل لدى جيل شابات اليوم و«اللا غوست» للشبان الذين تتجه أذواقهم في العطور إلى روائح الليمون أو بعض روائح التوابل أو الأخشاب العطرية مثل العود، لكن الشابات يملن إلى القرب من رائحة الفواكه، وبالنسبة إلى الجيل القديم، فهم يفضلون الروائح التقليدية القديمة مثل عطر الياسمين والفل والزنبق.
تقول السيدة لميس الصفدي عن العطور الدمشقية، «هي عطور جميلة ورائعة وأنا أفضّل منها العطر برائحة الياسمين لأنها جميلة ومحببة لكل النفوس».
ويؤكد موسى القصير إقبال السوريين على العطور الدمشقية قائلا، «أجد أن رائحة الزهور زكية وتنعش القلب لذلك غالباً ما اختار عطور دمشقية برائحة الزهور كالفل أو الياسمين، ولكوني مدخناً فعلبة العطر موجودة معي دائماً للتخفيف من رائحة الدخان غير المرغوب بها».
وبالإضافة إلى ما يقدمه سوق البزورية من بضائع مختلفة في حوانيته الصغيرة، يضم أجمل منشأتين معماريتين قديمتين في العاصمة السورية هما، «خان أسعد باشا»، أكبر خانات دمشق القديمة، بل وأجمل خانات الشرق الأوسط و«حمام نورالدين الشهيد» أشهر حمام دمشقي مازال يستقبل زواره حتى الآن.
أضف تعليق