قانون الضمان الاجتماعي... «راحت السكرة وجاءت الفكرة»
ساعات قليلة فقط مضت على المرسوم الذي اصدره الرئيس الفلسطيني واوقف بموجبه "قانون الضمان الاجتماعي" كانت كافية لكي تشير الى فرح كبير عم قطاعات واسعة من المجتمع الفلسطيني. فور صدور المرسوم الرئاسي يوم امس (الثامن والعشرون من كانون ثاني الحالي). تناقلت وسائل الاعلام المختلفة ووسائل التواصل الاجتماعي الخبر بسرعة النار في الهشيم. مثلما توالت ردود الفعل التلقائية التي عبرت عن نفسها بتعليقات وردود فعل غَلَبَ عليها طابع الارتياح من قرار "وقف" القانون، قلة قليلة فقط عبرت عن عدم ارتياحها لهذا التطور.
اطلالة سريعة على مجمل تطورات الاحداث المرتبطة بقانون الضمان الاجتماعي الحالي تشير الى ان فلسفة وبدايات العمل في تشريع هذا القانون اتسمت عموماً بالانقسام. حيث احاطت الحكومة عملية تطوير مسودة القانون بنوع من "السرية" من خلال استثناء كل الاطراف الاخرى الشريكة في الموضوع، كمؤسسات المجتمع المدني وأصحاب العمل، في مراحل العمل المختلفة بدءاً من مناقشة الفكرة والفلسفة ثم انطلاق آليات العمل التي اقتصرت على (فريق حكومي) مطلع عام 2012 وصولاً الى اعلان المسودة الاولى للقانون عام 2016 دون طرحها مسبقاً للنقاش المجتمعي، او على الأقل دون إعطاء هذا النقاش المدى اللازم لتحقيقه.
وأثبتت التطورات ايضاً ان هذا الانقسام لم يكن محصوراً بين الحكومة وممثلي الهيئات والمؤسسات المجتمعية المختلفة، بل امتدت لتشمل انقساماً افقياً وعمودياً طال في تداعياته وتفاصيله اللاحقة أذرع الحكومة وهيئاتها، الاحزاب والقوى السياسية، الاتحادات والنقابات والمؤسسات الاهلية والمجتمعية عامة اضافة الى القطاع الخاص. وظهر جلياً خلال الثلاث اعوام الاخيرة ان "قانون الضمان الاجتماعي" خلط الحابل بالنابل لدى كل الهيئات المذكورة. فالتحركات الجماهيرية ضد القانون بصيغته (رقم 6 لسنة 2016) قادتها "الحملة الوطنية للضمان الاجتماعي" والتي توجت عملها في تحركات ومظاهرات جماهيرية واسعة في نيسان وايار عام 2016. ولاحقاً فقد هذا الحراك الكثير من مكانته خلال عام 2018 ليحل محله "الحراك الفلسطيني الموحد لإسقاط قانون الضمان الاجتماعي" في قيادة التحركات الجماهيرية التي افضت في نتيجتها الى وقف العمل بالقانون (رقم 19 لسنة 2016).
وبات معلوماً الآن الكثير من التفاصيل التي رافقت هذا التحول، وحجم الشرخ الذي أحدثه القانون وسياق تطوره بين القوى والهيئات التي كان يُفتَرض فيها ان تعبر عن مصالح الفئات الاوسع من المواطنين والمواطنين انفسهم، وهو ما ادى في نتيجته النهائية الى ان يظهر قطاع واسع من العمال والموظفين في تحالف مع اصحاب العمل، لإسقاط القانون، وان "تتحالف" بعض هيئات وقيادات المنظمات والاتحادات التي يُفتَرض بها ان تمثل المواطنين مع الحكومة التي اظهرت خلال سنوات عديدة تصميماً، كان محلاً لتساؤلات كثيرة من المواطنين، على اصدار القانون واعداد كل اللوائح والانظمة والاجسام اللازمة والبدء بتنفيذه على ارض الواقع، والتجاهل الفعلي لكل الحراك المجتمعي الداعي سواء لتأجيل البدء بتطبيقه لحين الاتفاق المجتمعي على اجراء تعديلات عليه، او الداعي لإلغائه من حيث الاساس والجوهر.
اما الأن وقد بات كل هذا التاريخ خلفنا فانه لا بد من اخذ الدروس والعبر، واذا كان وقف العمل بالقانون محل فرح فئات كثيرة، فانه من الاولى ان يكون محطة تقييم ونقد ذاتي لكل الأطراف والجهات لإعادة ترتيب اوراقها من جديدة، لان وقف العمل بالقانون الحالي لا يجب ان يكون بأي حال من الاحوال نهاية المطاف، بل يمكن ان نجعل منها محطة انطلاق جديدة، واود في هذه العجالة ان اشير الى القضايا التالية:
أولاً: الضمان الاجتماعي هو حق اساس من حقوق المواطن، ومسئولية تتحملها الدولة تجاه مواطنيها، وهو يشمل جملة من الحقوق والتأمينات الاجتماعية. وتكرس هذا الحق من خلال العديد من القوانين والتشريعات الفلسطينية، مثلما تحول هذا الى التزام واجب من الدولة تجاه مواطنيها من خلال توقيعها على سلسلة من المعاهدات والمواثيق الدولية في نيسان عام 2014 ومنها "العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي نص صراحة في المادة (9) على هذا الحق.
ثانياً: لا يتوجب على احد ان يفرح لإلغاء الضمان الاجتماعي، لأنه فكرة تنطوي على الكثير من معاني المواطنة، وقيام الدولة بواجباتها ومسئوليتها تجاه مواطنيها. وان كان هناك من فرح من الغاء "صيغة" معينة لقانون الضمان الاجتماعي فان هذا لا يتوجب ان يعمي اعيننا عن حقيقية الواجب الملقى على عاتق الجميع في السعي الحثيث لتكريس هذا الحق وفق صيغ تحقق مصلحة الغالبية العظمى من المواطنين، وخاصة الفئات الضعيفة والمهمشة منهم.
ثالثاً: هو درس للأحزاب والاتحادات والنقابات والمؤسسات الاهلية، وخاصة الهرم القيادي فيها بأن شرعية وجودها وقيادتها مرتبطة بأمر مهم واساسي ولا ينبغي تجاهله بأي حال، وهو قدرتها عن التعبير عن مصالح وقضايا الفئات التي تمثلها، وبدون قيامها بهذا الدور بصدق وامانة وشفافية فإنها تبقى فقط مجرد هياكل خالية من اي مضمون او حتى التفاف جماهيري حولها. واذا كان بعض هذه القيادات يردد مقولة "ان الجماهير انساقت وراء اصحاب العمل" لإلغاء قانون الضمان فان هذا القول ينطبق عليه مقولة "فالمصيبة اعظم". اذا كيف يمكن ان تستوى المعادلة بأن العمال والموظفين يقودهم اصحاب العمل، بينما يقف ممثليهم بعيداً عنهم؟! انها فرصة لإعادة بناء هياكل هذه المؤسسات على اسس اكثر ديمقراطية وشفافية وتعبيراً عن مصالح جماهيرها، ونبذ الفوقية والتعالي على الجماهير.
رابعاً: اما بالنسبة للحكومة فانه يُفترض ان يكون معلوماً الآن، في ضوء كل التطورات، انه اذا كان بناء منظومة الضمان الاجتماعي هو واجب للدولة تجاه مواطنيها، والتزامات واجبة التنفيذ وفق تعهداتها والتزامها في المعاهدات الدولية، فان هذا الامر لا يمكن تجاهله من ناحية، ومن ناحية ثانية لا يمكن تحويله الى واجب قابل للتطبيق على ارض الواقع دون العمل على ايجاد توافق واجماع مجتمعي يعكس مصالح الفئات والشرائح الاجتماعية الواسعة، لأنه بدون توفر ذلك فانه لا يمكن تكريس الفلسفة والفكرة الاساسية من وجود نظام للضمان الاجتماعي تتحمل الدولة مسئوليته.
سأكتفي بالقضايا التي أشرت اليها اعلاه للوصول الى خلاصة القول ان هناك خصوصية تميز واقع مجتمعنا الفلسطيني، وطبيعة العلاقات التي تحكم فئاته وشرائحه المختلفة باعتباره مجتمع لا يزال فعلياً تحت الاحتلال، ويسعى جاهداً للتحرر والاستقلال وتقرير مصيره بنفسه، وفي سياق عملية التحرر وتجميع الطاقات لتحقيق ذلك فان لا بد من السعي الدائم الى تطوير كل الهياكل التمثيلية وتعزيز قدراتها على التمثيل الحقيقي للمجتمع، من خلال تكريس الديمقراطية كنهج عمل دائم، واشراك المواطنين الدائم في عملية الرقابة على أدائها عبر تكريس نظام حازم للرقابة يقوم على ارقى درجات الشفافية. اما التحدي الذي بات ينتظر الجميع بعد الآن فهو قدرتنا جميعاً على بناء نظام للضمان الاجتماعي يسهم في تعزيز وجودنا وصمودنا ويفتح امامنا كل مداخل الاستقلال ويقصر من عمر احتلالنا.
اطلالة سريعة على مجمل تطورات الاحداث المرتبطة بقانون الضمان الاجتماعي الحالي تشير الى ان فلسفة وبدايات العمل في تشريع هذا القانون اتسمت عموماً بالانقسام. حيث احاطت الحكومة عملية تطوير مسودة القانون بنوع من "السرية" من خلال استثناء كل الاطراف الاخرى الشريكة في الموضوع، كمؤسسات المجتمع المدني وأصحاب العمل، في مراحل العمل المختلفة بدءاً من مناقشة الفكرة والفلسفة ثم انطلاق آليات العمل التي اقتصرت على (فريق حكومي) مطلع عام 2012 وصولاً الى اعلان المسودة الاولى للقانون عام 2016 دون طرحها مسبقاً للنقاش المجتمعي، او على الأقل دون إعطاء هذا النقاش المدى اللازم لتحقيقه.
وأثبتت التطورات ايضاً ان هذا الانقسام لم يكن محصوراً بين الحكومة وممثلي الهيئات والمؤسسات المجتمعية المختلفة، بل امتدت لتشمل انقساماً افقياً وعمودياً طال في تداعياته وتفاصيله اللاحقة أذرع الحكومة وهيئاتها، الاحزاب والقوى السياسية، الاتحادات والنقابات والمؤسسات الاهلية والمجتمعية عامة اضافة الى القطاع الخاص. وظهر جلياً خلال الثلاث اعوام الاخيرة ان "قانون الضمان الاجتماعي" خلط الحابل بالنابل لدى كل الهيئات المذكورة. فالتحركات الجماهيرية ضد القانون بصيغته (رقم 6 لسنة 2016) قادتها "الحملة الوطنية للضمان الاجتماعي" والتي توجت عملها في تحركات ومظاهرات جماهيرية واسعة في نيسان وايار عام 2016. ولاحقاً فقد هذا الحراك الكثير من مكانته خلال عام 2018 ليحل محله "الحراك الفلسطيني الموحد لإسقاط قانون الضمان الاجتماعي" في قيادة التحركات الجماهيرية التي افضت في نتيجتها الى وقف العمل بالقانون (رقم 19 لسنة 2016).
وبات معلوماً الآن الكثير من التفاصيل التي رافقت هذا التحول، وحجم الشرخ الذي أحدثه القانون وسياق تطوره بين القوى والهيئات التي كان يُفتَرض فيها ان تعبر عن مصالح الفئات الاوسع من المواطنين والمواطنين انفسهم، وهو ما ادى في نتيجته النهائية الى ان يظهر قطاع واسع من العمال والموظفين في تحالف مع اصحاب العمل، لإسقاط القانون، وان "تتحالف" بعض هيئات وقيادات المنظمات والاتحادات التي يُفتَرض بها ان تمثل المواطنين مع الحكومة التي اظهرت خلال سنوات عديدة تصميماً، كان محلاً لتساؤلات كثيرة من المواطنين، على اصدار القانون واعداد كل اللوائح والانظمة والاجسام اللازمة والبدء بتنفيذه على ارض الواقع، والتجاهل الفعلي لكل الحراك المجتمعي الداعي سواء لتأجيل البدء بتطبيقه لحين الاتفاق المجتمعي على اجراء تعديلات عليه، او الداعي لإلغائه من حيث الاساس والجوهر.
اما الأن وقد بات كل هذا التاريخ خلفنا فانه لا بد من اخذ الدروس والعبر، واذا كان وقف العمل بالقانون محل فرح فئات كثيرة، فانه من الاولى ان يكون محطة تقييم ونقد ذاتي لكل الأطراف والجهات لإعادة ترتيب اوراقها من جديدة، لان وقف العمل بالقانون الحالي لا يجب ان يكون بأي حال من الاحوال نهاية المطاف، بل يمكن ان نجعل منها محطة انطلاق جديدة، واود في هذه العجالة ان اشير الى القضايا التالية:
أولاً: الضمان الاجتماعي هو حق اساس من حقوق المواطن، ومسئولية تتحملها الدولة تجاه مواطنيها، وهو يشمل جملة من الحقوق والتأمينات الاجتماعية. وتكرس هذا الحق من خلال العديد من القوانين والتشريعات الفلسطينية، مثلما تحول هذا الى التزام واجب من الدولة تجاه مواطنيها من خلال توقيعها على سلسلة من المعاهدات والمواثيق الدولية في نيسان عام 2014 ومنها "العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي نص صراحة في المادة (9) على هذا الحق.
ثانياً: لا يتوجب على احد ان يفرح لإلغاء الضمان الاجتماعي، لأنه فكرة تنطوي على الكثير من معاني المواطنة، وقيام الدولة بواجباتها ومسئوليتها تجاه مواطنيها. وان كان هناك من فرح من الغاء "صيغة" معينة لقانون الضمان الاجتماعي فان هذا لا يتوجب ان يعمي اعيننا عن حقيقية الواجب الملقى على عاتق الجميع في السعي الحثيث لتكريس هذا الحق وفق صيغ تحقق مصلحة الغالبية العظمى من المواطنين، وخاصة الفئات الضعيفة والمهمشة منهم.
ثالثاً: هو درس للأحزاب والاتحادات والنقابات والمؤسسات الاهلية، وخاصة الهرم القيادي فيها بأن شرعية وجودها وقيادتها مرتبطة بأمر مهم واساسي ولا ينبغي تجاهله بأي حال، وهو قدرتها عن التعبير عن مصالح وقضايا الفئات التي تمثلها، وبدون قيامها بهذا الدور بصدق وامانة وشفافية فإنها تبقى فقط مجرد هياكل خالية من اي مضمون او حتى التفاف جماهيري حولها. واذا كان بعض هذه القيادات يردد مقولة "ان الجماهير انساقت وراء اصحاب العمل" لإلغاء قانون الضمان فان هذا القول ينطبق عليه مقولة "فالمصيبة اعظم". اذا كيف يمكن ان تستوى المعادلة بأن العمال والموظفين يقودهم اصحاب العمل، بينما يقف ممثليهم بعيداً عنهم؟! انها فرصة لإعادة بناء هياكل هذه المؤسسات على اسس اكثر ديمقراطية وشفافية وتعبيراً عن مصالح جماهيرها، ونبذ الفوقية والتعالي على الجماهير.
رابعاً: اما بالنسبة للحكومة فانه يُفترض ان يكون معلوماً الآن، في ضوء كل التطورات، انه اذا كان بناء منظومة الضمان الاجتماعي هو واجب للدولة تجاه مواطنيها، والتزامات واجبة التنفيذ وفق تعهداتها والتزامها في المعاهدات الدولية، فان هذا الامر لا يمكن تجاهله من ناحية، ومن ناحية ثانية لا يمكن تحويله الى واجب قابل للتطبيق على ارض الواقع دون العمل على ايجاد توافق واجماع مجتمعي يعكس مصالح الفئات والشرائح الاجتماعية الواسعة، لأنه بدون توفر ذلك فانه لا يمكن تكريس الفلسفة والفكرة الاساسية من وجود نظام للضمان الاجتماعي تتحمل الدولة مسئوليته.
سأكتفي بالقضايا التي أشرت اليها اعلاه للوصول الى خلاصة القول ان هناك خصوصية تميز واقع مجتمعنا الفلسطيني، وطبيعة العلاقات التي تحكم فئاته وشرائحه المختلفة باعتباره مجتمع لا يزال فعلياً تحت الاحتلال، ويسعى جاهداً للتحرر والاستقلال وتقرير مصيره بنفسه، وفي سياق عملية التحرر وتجميع الطاقات لتحقيق ذلك فان لا بد من السعي الدائم الى تطوير كل الهياكل التمثيلية وتعزيز قدراتها على التمثيل الحقيقي للمجتمع، من خلال تكريس الديمقراطية كنهج عمل دائم، واشراك المواطنين الدائم في عملية الرقابة على أدائها عبر تكريس نظام حازم للرقابة يقوم على ارقى درجات الشفافية. اما التحدي الذي بات ينتظر الجميع بعد الآن فهو قدرتنا جميعاً على بناء نظام للضمان الاجتماعي يسهم في تعزيز وجودنا وصمودنا ويفتح امامنا كل مداخل الاستقلال ويقصر من عمر احتلالنا.
أضف تعليق