23 تشرين الثاني 2024 الساعة 12:05

الشيخ الخالصي والزعيم لينين

2018-12-15 عدد القراءات : 931
بعد انتصار ثورة تشرين الاول/ اكتوبر  الاشتراكية عام 1917 في روسيا، وزعامة حزب لينين لها وقيادته التحولات والتطورات، ابتهج كثير من زعماء حركات التحرر الوطني في اركان المعمورة بهذا النصر وما حصل في روسيا، وتاملوا بفرح وروح الانتصار والاعتماد على القائد لينين وعلى دوره في التضامن الأممي ودعم حركة التحرر الوطني والقومي للشعوب في العالم ومنها طبعا في وطننا العربي الكبير، ومنه العراق.
كان العراق حينها يمر بفترة انتقال من احتلال الى اخر، حيث تمكنت القوات البريطانية من غزوه واحتلاله والسيطرة عليه وانسحاب القوات والسلطات العثمانية، واعلان بيان الجنرال البريطاني مود، عام 1917 من بغداد كما أعلن "الجنرال" الأمريكي بول بريمر وأتباعه عام 2003  تحرير العراق. ودخل العراق فترة أخرى من الاستغلال والاستعمار والاستثمار.
لم يهدأ بال القوى والشخصيات الوطنية والدينية من سياسات الاستعمار البريطاني ومحاولات الالتفاف على المصالح الوطنية العراقية وحرية الشعب العراقي واستقلاله. فبادرت قيادات حركة التحرر الوطني إلى إصدار بيانات تشجب بها أساليب الاستعمار في الاستثمار والاستغلال ودعت إلى الاستقلال الوطني والنهوض بالعراق وفق إرادة الشعب وخياراته. وأخذت بالتجمع والتشاور والعمل على توحيد الجهود وتنسيق النشاطات وتنظيم القدرات.
تطورت الأحداث لاندلاع ثورة العشرين التي حسمت الموقف الوطني العراقي بإنهاء الاستعمار المباشر والدعوة لحكم وطني مستقل، ولعبت المرجعيات الدينية في كربلاء والنجف والكاظمية دورا بارزا فيها وما سبقها وما تلاها، كما لعبت الأحزاب السياسية، التي أخذت بالتاسيس، والشخصيات الوطنية في بغداد والمدن الأخرى دورها المشهود. وبعد تمكن المستعمر من السيطرة العسكرية وإعلان العمل على انتخابات واتفاقيات وغيرها وقفت قيادات حركة التحرر موقفا حازما وإدارت الصراع معه. وكان من بين أبرز الشخصيات التي برزت هو الشيخ المجاهد محمد بن محمد مهدي الخالصي، (ولد في الكاظمية/ بغداد، العراق عام 1888م وتوفي ودفن فيها عام 1963م ) الذي حرك من موقعه النضال الوطني وأصدر مع القيادات الأخرى البيانات العديدة والاجتماعات المتتالية ووضع مطالب الشعب العراقي في صدارة المشهد السياسي..
عقدت اجتماعات عامة في بغداد وكربلاء بقيادته ومشورة من وقّع معه بيانات المطالب بالاستقلال والحرية والعدالة للعراق. هذه الاجتماعات بينت قدرته القيادية وفكره النير وزعامته الوطنية. صدر البيان المشترك ردا على تصريح الوزير البريطاني حينها ونستون تشرشل، نص على ما يلي، حسب ما أورده الشيخ محمد مهدي البصير في كتابه : تاريخ القضية العراقية، ط2 ص 237 : "لقد أثبت العراقيون رغبتهم الأكيدة في الإستقلال التام ورفضهم اي انتداب كان رفضا باتا وحركاتهم الخطيرة سنة 1920 أعظم شاهد على ذلك وبمناسبة تصريح المستر تشرشل في البرلمان الانجليزي بشأن مسألة الإنتداب في العراق أقام الشعب العراقي مظاهرة سلمية فوضنا فيها  أن نعلن أمام مجلسكم الموقر ولدى البرلمانات الأخرى عن رأيه في رفض الإنتداب وعليه نرفض كل انتداب ونحتج على كل قرار يعارض الإستقلال التام للعراق." ووقعه كل من: محمد الخالصي، السيد أحمد الداوود، السيد محمد الصدر، حمدي الباجه جي، محمد المهدي البصير. كما كانت الرسائل والبرقيات الموقعة من رؤساء العشائر وشيوخها ترسل إلى السيدين الخالصي والصدر تأييدا ودعما لبلاغهم المنشور. واعتبارها مواثيق وطنية، نقل البصير  واحدا منها (ص238)، ورد فيه  ما يلي: " أن الميثاق العربي العراقي الذي  وقعنا عليه بصفتنا سادات وزعماء أصالة عن أنفسنا ووكالة عن أفراد قبائلنا وتابعينا هو البرنامج السياسي المشتمل على المواد الآتية التي اقسمنا على رعايتها واتخاذها غاية لجهودنا الدينية والوطنية وعاهدنا الله على أن نعمل بمقتضاها وان لا نعدل عن أية جزئية من جزئياتها:
المادة الأولى: تأليف حكومة نيابية ديمقراطية مسؤولة أمام الأمة العراقية مستقلة استقلالا تاما لا شائبة فيه من أي تدخل أجنبي.
المادة الثانية: تأييد سياسة الملك فيصل الاول على أساس استقلال العراق السياسي التام بحدوده الطبيعية.
المادة الثالثة: رفض الإنتداب وكل معاهدة تمس كرامة الأمة العراقية واستقلالها التام فعلى هذه المواد الثلاث المنتظمة حقوق العراق الطبيعية قرت رغباتنا  الصميمية والله حسبنا ونعم الوكيل.".
قاد الشيخ محمد الخالصي اجتماعات عامة أصدرت مواثيقا أكدت على الوحدة الوطنية والتضامن بين أبناء الشعب العراقي كافة. والتمسك بالاستقلال التام وانهاء الإنتداب. وتنظيم حركة التحرر الوطني ومشاركة قيادات الأحزاب الوطنية والمرجعية الدينية ورؤساء القبائل والعشائر، اي الربط بين القوى الفاعلة في المدينة والريف، وطلب تأسيس الحزب الوطني بقيادة جعفر ابي التمن،  مع نشاط التجمعات السياسية الاخرى، وتصعيد اساليب الكفاح الوطني المشترك. مما أثار حفيظة المستعمر وأعوانه وتوجههم إلى نفي المناضلين وفي مقدمتهم الشيخ محمد الخالصي، فاعتقل في 28  آب/ أغسطس  1922 ونفي الى الحجاز ومنها بعد اداء فريضة الحج انتقل الى إيران. وفي 25 حزيران/ مايو 1923 القي القبض على والده الشيخ محمد مهدي الخالصي (ولد في  الكاظمية في 1860/6/28م وتوفي مسموما ودفن في مشهد/ ايران في 1925/4/5م) ونفي الى الهند ثم اليمن فالحجاز  فايران. وهذا ما أمر به المعتمد السامي البريطاني، برسي كوكس، وما ارادته المعتمدية البريطانية في قرار نفي الشيخين المناضلين واصرارها على أبعادهما خارج العراق، كما أشارت فيبي مار في كتابها، تاريخ العراق الحديث، مستندة الى الوثائق البريطانية، وكذلك الوكيبيديا.
قبل نفيه والتضامن الواسع معه أسهم بشكل كبير في الحركة الشعبية وإدارة الصراع مع المستعمر وأعوانه واعتماد الكفاح السلمي سبيلا إلى ذلك، بالاحتجاج والتجمعات وكتابة الرسائل والبيانات والخطب وتنظيم العمل السياسي والصحافة.
في كتابه، نصف قرن من تاريخ وطن، كتب سالم عبيد النعمان، (ص134 ( ":لقد كان الخالصي هذا المفكر الوطني والانساني البعيد النظر قد سطر أفكاره في برقيته المرسلة الى لينين، زعيم ثورة أكتوبر الاشتراكية والتي نشرتها جريدة New Times السوفيتية ونصها التالي: "أن الشرق الذي ايقظتم ينظر لحظة ترجمة أفكاركم الصائبة حول تحالف الأمم الشرقية وحق كل فرد وكل أمة كبيرة كانت أم صغيرة، مثقفة أو متخلفة، بالحياة والاستقلال الى واقع حي".
تختصر البرقية وعي القيادات الوطنية والدينية وادراكها المسؤولية الملقاة عليها في التخلص من الاستعمار والتحرر منه وأتباعه، ولعل الشيخ الخالصي في موقعه ودوره عبّر عنها بشكل واضح وتقدير كامل للمهمات والمسؤوليات التي تتطلبها الأوضاع والقدرات. وهو رجل الدين والمرجع القائد يخاطب لينين زعيم الثورة الاشتراكية التي عمل المستعمر بكل جهد ووسيلة على إبعاد اي تاثير لها في العراق وخارجه، أو اي تواصل مع قيادتها..
الحرية والاستقلال التامان الكاملان هما الشعاران الأبرز في تلك المرحلة من الإحتلال البريطاني، فمادام هناك احتلال وقوات أجنبية وقواعد ومعاهدات استعمارية يصير الكفاح بكل أشكاله هو الطريق الصحيح للتخلص منه، وكما يكون التعاون والتضامن مع كل القوى الخيرة التي تدعم وتساعد وتشد العزم لتحقيق أهداف الشعب ومصالحه الأساسية مطلبا ومهمة. واليوم يعود شكل آخر من الإحتلال والمعاهدات والاتفاقات مع مستعمر اخر، إمبريالي امريكي، فلماذا لا تكون المقولة المعروفة، ما أشبه اليوم بالبارحة، منطلقا في جانبها التحرري ايضا؟!.
 اجل، دفع الشيخ محمد الخالصي وبقية العلماء والقادة ثمنا غاليا ولكن كانت المهمات والواجبات والمسؤوليات في المقام الأول. الأمر الذي به ومنه تعرف معادن الرجال، وصلابة القادة، واخلاص المؤمنين فعلا. أن مجرد هذا الانفتاح على لينين وثورته دليل مهم ومَعلم أساس في نزاهة القيادات وحرصهم على إنجاز التحرر الوطني وبناء الدولة وحرية الشعب وكرامته والحفاظ على ثرواته ومستقبل اجياله. هذه البرقية ومحتواها عنوان ومطلب شعبي والكفاح الوطني لتحقيقها يرسم نموذجا وجرسا يدق عن المقاومة الشعبية ضد الإحتلال البريطاني الاول، قبل ما يقارب قرن من الزمان، ويقدم درسا واجبا للكفاح والتحرر من اي احتلال اخر، حتى ولو بعد قرن..

وللحرية الحمراء باب         بكل يد مضرجة يدق

أضف تعليق