أي نظام سياسي فلسطيني؟ (1)
(1)
■ مازال النقاش السياسي محتدماً حول هوية ومضمون النظام السياسي الفلسطيني وآليات عمله. هل هو نظام برلماني لحركة سياسية في مرحلة التحرر الوطني، تقوم العلاقة بين أطرافها على أسس إئتلافية وتشاركية، بما يلبي المصالح الوطنية ويوحد مسارات النضال نحو الأهداف التي رسمها البرنامج الوطني الموحد. تشكل منظمة التحرير الفلسطينية، السياسية والإعلامية والثقافية، والمالية والنقابية والإجتماعية إطارها الجامع، الذي يتقدم إلى الرأي العام بإعتباره الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني بكل فئاته وتياراته، وقواه السياسية والفكرية، وفي أماكن تواجده، في أرجاء الوطن المقسم [الـ 48 ـــــ الـ 67] والشتات؟ أم هو نظام رئاسي برلماني، له أسسه وآلياته المختلفة، بحيث يمكن القول إن الحالة الفلسطينية خرجت من مرحلة التحرر الوطني، وإنتقلت إلى مرحلة الدولة، بحيث بات بإمكانها أن تصوغ نظاماً جديداً، يتمتع بالقدرة على تجديد نفسه ديمقراطياً بالعودة إلى الإنتخابات الدورية في مواعيدها المحددة، وتكون الحدود بين السلطات مصانة بقوة الدستور وقوة القانون؟
أم هو نظام فردي، هجين، لا ملامح له، تتم إدارته بالمراسيم، له مؤسسات ذات عناوين رنانة لا صلاحيات لها، وحتى عندما تقوم بعمل ما، بما فيه العمل اليومي، لا بد أن تبدأ بالتأكيد أنها تعمل «بتوجيه من السيد الرئيس». وحتى عندما تتحدث عن توجه ما، يخص ما يسمى «القيادة الفلسطينية»، تحرص على التأكيد على الرئيس والقيادة الفلسطينية، في تأكيد وجود حيز ثابت في كل الميادين والتوجهات وآليات العمل هو «السيد الرئيس»، ولولا «السيد الرئيس» لبات كل شيء معطلاً، وفي حالة موت سريري؟
(2)
عندما إحتلت فصائل الثورة الفلسطينية موقعها في م.ت.ف، وإنتقلت بها، من مرحلة وآليات كفاح قديمة، إلى مرحلة جديدة، تتناسب وتلبي الظروف المستجدة للقضية الفلسطينية بعد هزيمة حزيران (يونيو) 67، إنهمكت القيادات الفلسطينية في نقاش حر وصريح، وشجاع، لبلورة نظام إئتلافي وتشاركي، يلبي حاجات المرحلة النضالية. ولم تخلُ هذه الحوارات من دعوات ومحاولات للتخلص من شروط الإئتلافي وضروراته، والذهاب نحو الفردية والتفرد. لكن الضغوط، والوقائع الدامغة، قادت إلى إنشاء نظام برلماني، محطته التشريعية هي المجلس الوطني الفلسطيني، برئاسته ولجانه البرلمانية الخاصة به، ومحطته التنفيذية لجنة تنفيذية ينتخبها المجلس، وتنتخب هي بدورها رئيسها، الذي سيظل «أولاً بين متساوين». بما يلي الضرورات النضالية، والعلاقات الداخلية القائمة على الأسس الإئتلافية. وكثيراً ما شهدت دورات المجلس الوطني، اللجنة التنفيذية إجتماعات ساخنة في نقاش ضرورة تطوير النظام السياسي وتعميق أسس الإئتلافي ومبادئ التشاركية فيه، ليس في إطار الصراع على السلطات والمغانم، بل في إطار تطوير آليات النضال وتعزيز القدرات الكفاحية للشعب ومنظماته ومؤسساته المؤتلفة في م.ت.ف.
ولعل نظام الصندوق القومي، الذي قام على إنتخاب مجلس إدارة له، تترأسه شخصية وطنية مستقلة نظيفة اليد، يعمل على تنفيذ قرارات المجلس الوطني، في رسم الإستحقاقات والموازنات والحقوق المالية للأطراف المؤتلفة في
م.ت.ف، وباقي المؤسسات الوطنية على إختلاف وظائفها، ودون التأثر بالخلافات السياسية أو إخضاع إدارته لطرف دون آخر، وبحيث يتحول إلى أداة ضغط في صالح طرف ضد آخرين. لعل هذا، شكل عنواناً بارزاً لمعاني العلاقات الداخلية بين القوى والفصائل، في م.ت.ف، على أسس إئتلافية، وتشاركية سليمة. بعيداً عن سياسة الإبتزاز المالي والتهديد بالتطاول على الحقوق الوطنية للآخرين، وعلى قاعدة أن الصندوق القومي الفلسطيني هي صندوق م.ت.ف، وليس صندوق هذا الفصيل أو ذاك، بما في ذلك رئيس اللجنة التنفيذية نفسه، وأن مرجعية الصندوق هو المجلس الوطني، واللجنة التنفيذية مجتمعة، وعلى قاعدة أن الإلتزامات المالية العربية نحو م.ت.ف، وأن مساعدات الأصدقاء لمنظمة التحرير، هي لمنظمة تمثل الشعب وحركته الوطنية بكل أطيافها، وليست منظمة هذا الفصيل أو ذاك.
(3)
وكانت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، تشكل بحق [دون إغفال الثغرات والنواقص] القيادة السياسية للشعب الفلسطيني، لها إجتماعاتها الدورية، وقراراتها، بل إنها كثيراً ما كانت تستدعى للإجتماعات الإستثنائية من قبل رئيسها، وفي أوقات مختلفة للبت بالقضايا الطارئة. وكانت اللجنة التنفيذية ذات مكانة، ومهابة على المستوى الوطني والخارجي. وكان رئيسها حريصاً عند تلبية دعوات لزيارة عواصم عربية ودولية أن يشكل برئاسته وفداً من «التنفيذية»، وقلماً سافر وحيداً في مهمة خارجية، إذ كان يستشعر أن وجود ممثلي باقي الفصائل إلى جانبه، من شأنه أن يقوي موقعه كرئيس للجنة التنفيذية، وكمسؤول أول في الحالة الفلسطينية، وأن يقوي الموقف الفلسطيني، في أعين الآخرين وحساباتهم.
وإلى جانب اللجنة التنفيذية، كان هناك إطار قيادي يضم الصف الأول في الفصائل والأحزاب الفلسطينية، يدعى إلى اللقاء في الفواصل السياسية التي تحتاج إلى قرارات سياسية ذات طابع إستراتيجي. خاصة عندما كان يدعى، على سبيل المثال، لدورة للمجلس الوطني الفلسطيني، فتجتمع «القيادة الفلسطينية» [ تضم اللجنة التنفيذية والأمناء العامين وبعض أعضاء اللجنة المركزية لفتح، والمكاتب السياسية لبعض الفصائل] وتدير حواراً، للإتفاق على مخرجات المجلس الوطني قبل أن يجتمع، وبحيث تكون نتائجه خلاصة لتوافق وطني، يلبي المصلحة الوطنية ويصون وحدة م.ت.ف، ووحدة مؤسساتها، وبرنامجها، ووحدة الشعب وقواه الإجتماعية. ولا
داعي لشرح طويل للتأكيد أن الوحدة الوطنية، كانت العامل الأبرز في صون نضالات المراحل السابقة من م.ت.ف. وكانت هي الأمر «المقدس»، لا تمس، مهما علت الخلافات [إلا في مراحل معينة شذ عن هذا المبدأ اطراف في م.ت.ف ذهبوا في منعطفات سياسية خطيرة نحو بناء تشكيلات حاولوا أن يقدموها بديلة لمنظمة التحرير الفلسطينية لكنها لم تشق طريقها، وسرعان ما تلاشت دون أن يمس هذا الأمر الموقع التمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية في أعين الشعب الفلسطيني وفي الحسابات السياسية الدولية].
(4)
مع إنقلاب أوسلو على البرنامج الوطني، شهدت م.ت.ف، تطورات عاصفة، أدت إلى استقالة عدد من أعضاء اللجنة التنفيذية، كما علقت الجبهتان الديمقراطية والشعبية عضويتهما فيها، دون الذهاب إلى هيئات تقدم نفسها بديلاً للمنظمة وموقعها التمثيلي.
في هذه المرحلة الصعبة، وشديدة التعقيد من عمر الحالة الوطنية، شهدت العلاقات داخل م.ت.ف تشققات خطيرة، في مقدمها الإنقلاب على البرنامج الوطني، والذهاب إلى مشروع أوسلو الفاسد. ومنها أيضاً، بعدما تعرضت أسس الإئتلاف الوطني لأضرار كثيرة، اللجؤ إلى المس بقواعد عمل الصندوق القومي الفلسطيني، وحرمان بعض القوى من حقوقها خاصة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، التي «عوقبت» على معارضتها لأوسلو، بأن حرمت من حقوقها المالية في الصندوق القومي لحوالي عشر سنوات؛ في محاولة للضغط عليها، وجرها إلى دهاليز أوسلو. غير أن النتائج كانت عكسية حين تبين لأهل أوسلو في مفاوضات كامب ديفيد 2(تموز/يوليو/2000) استحالة الفوز بالحقوق الوطنية الفلسطينية عبر اتفاق أوسلو الفاسد، ولابد من العودة إلى البرنامج الوطني.
لتطبيق إتفاق أوسلو، الذي نص على قيام السلطة الفلسطينية على دفعات (غزة ـــــ أريحا أولاً) وبما يوفر الفرصة للإحتلال للتيقن من جدية السلطة في الإلتزام بشروط التنسيق الأمني، إنعقد المجلس المركزي في م.ت.ف، وقرر تكليف اللجنة التنفيذية الإشراف على بناء السلطة، واتخذ قراراً بإعتبار اللجنة التنفيذية هي المرجعية السياسية العليا للسلطة. بما يحافظ على موقع م.ت.ف بإعتبارها هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. تمتد ولايتها التمثيلية على كل الشعب الفلسطيني وأما السلطة فهي «إدارة ذاتية للسكان» في أجزاء من المناطق الفلسطينية المحتلة (المنطقة أ ـــــ وإدارة منقوصة في المنطقة «ب» ـــــ أما المنطقة «ج» فتحت السيادة الكاملة للإحتلال الإسرائيلي). وعندما أعيد تشكيل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في المجلس الوطني الذي انعقد في نيسان 1996، عاودت اللجنة التنفيذية مهامها كقيادة سياسية، وكانت تجاهد، بكل قواها، كي تبقى هي المرجعية العليا للسلطة الفلسطينية، رغم أن الوقائع الميدانية، باتت تؤكد أن أجهزة السلطة ومؤسساتها، بدأت تزاحم الموقع السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، بحيث تراجع الدور السياسي للمنظمة لصالح الدور السياسي للسلطة، بما في ذلك عندما اتخذت الخطوة الخطيرة بإلحاق الصندوق القومي الفلسطيني بوزارة المال في السلطة الفلسطينية، في خطوة أراد منها المانحون، إضعاف الدور السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية،
لحساب الدور السياسي للسلطة، والإنتصار لبرنامج أوسلو ومشروعه (الحكم الإداري الذاتي) مقابل إضعاف البرنامج الوطني الفلسطيني، برنامج العودة وتقرير المصير والإستقلال. ويمكن القول أن هذه هي المرحلة التي شهد فيها النظام السياسي الفلسطيني بدايات انزياحاته نحو نظام سياسي بديل.
(5)
ولعل الخطوة المفصلية، التي شكلت نقلة نوعية في فرض التغيير على النظام السياسي الفلسطيني، وكانت لها تداعياتها الكبرى بعد ذلك، حين ضغطت الجهات المانحة على الرئيس الراحل ياسر عرفات للفصل بين منصب رئيس السلطة، ورئيس الحكومة في السلطة. إذ كان عرفات يتولى آنذاك، المناصب التالية: رئيس دولة فلسطين، رئيس اللجنة التنفيذية، رئيس السلطة الفلسطينية، ورئيس حكومة السلطة، إلى جانب وزارات في السلطة كان يديرها بنفسه، كوزارة الداخلية. وقد سمت الجهات المانحة، محمود عباس، أمين سر اللجنة التنفيذية آنذاك، رئيساً للحكومة.
الإشارة التي أرسلت بها الجهات المانحة، والرباعية الدولية، والتي تعني بوضوح تهميش م.ت.ف أكثر فأكثر، بما فيها لجنتها التنفيذية، وتهميش ياسر عرفات، رغم كونه رئيساً للسلطة، كانت عندما سلمت الرباعية الدولية خطة خارطة الطريق، للتسوية السياسية مع إسرائيل، إلى رئيس الحكومة محمود عباس، ما يعني أنه أصبح هو، كرئيس للحكومة، المفاوض الفلسطيني للتسوية مع إسرائيل، وليس رئيس اللجنة التنفيذية ياسر عرفات.
كان واضحاً أن الجهات المانحة، قررت استبعاد ياسر عرفات من المعادلة السياسية، وفي السياق استبعاد اللجنة التنفيذية، وحصر القرار السياسي والمالي والإداري بيد حكومة السلطة، في خيار سياسي واضح المعالم، بما يخدم مشروع التسوية الهابطة، كما وردت في خطة خارطة الطريق: إدارة ذاتية موسعة في المناطق المحتلة، تحت الوصاية الإسرائيلية، وحل قضية اللاجئين بالتوطين أو التهجير.
ولم يبق الأمر في حدود الإشارات، بل انتقل إلى الخطوات التطبيقية، حيث صار رئيس الحكومة هو من يمثل الجانب الفلسطيني في المفاوضات حول تطبيقات خطة خارطة الطريق، وهو من يجاور اللجنة الرباعية، والمبعوثين الدوليين. وصارت حكومة السلطة الفلسطينية، وليست اللجنة التنفيذية، هي المرجعية السياسية العليا للقضية الفلسطينية، وصار رئيس الحكومة في السلطة الفلسطينية هو من يمثل الجانب الفلسطيني، (وليست م.ت.ف) في المحافل الدولية.
غير أن النزاع على السلطة، وعلى الصلاحيات، وعلى النفوذ، الذي اشتدت حرارته بين عرفات وعباس، انفجر بعد مئة يوم من عمر حكومته عباس، في تظاهرات استقبلته عند أبواب المجلس التشريعي، هتفت ضده، واتهمته بخيانة القضية الوطنية، مادفعه إلى تحميل عرفات مسؤوليات التحريض ضده، وإلى تقديم استقالته من رئاسة الحكومة، والإعتكاف في منزله، ومقاطعة أعمال اللجنة التنفيذية. إلى أن رحل الرئيس عرفات شهيداً في 11/11/2004، فاستعاد محمود عباس نشاطه، على رأس فتح والسلطة وم.ت.ف، وبذلك يكون النظام السياسي الفلسطيني قد دخل مرحلة جديدة.■
أضف تعليق