الدحيّة الّتي بتنا نعرفها في فلسطين، نسخ متفاوتة من حيث قربها إلى الأصل. لا تهدف هذه السطور إلى القول إن كان ما حلّ بها يُعَدّ "تشويهًا"، أو تطوّرًا طبيعيًّا في الموسيقى الشعبيّة، لكنّها تحاول أن تتقفّى أثر التراكم البطيء، الّذي أدّى إلى تغيّر الدحيّة، وإلى اللافت فعلًا وغير المفهوم ضمنًا: تحوّل هذا الفنّ الشعبيّ البدويّ إلى جزء مركزيّ من الفنّ الشعبيّ، في المناطق غير البدويّة، في كلّ فلسطين.
خصال مفقودة
كلّما زاد انتشارها، على الطريق الطويلة من البادية إلى الجليل، خسرت الدحيّة خصالًا أصيلة فيها – بالرقص والإنشاد - وأُضيفت عوامل دخيلة عليها. وتتّسم هذه العوامل بتجريد حركة الجسد من دورها الإيقاعيّ، وتقليصها إلى الحدّ الأدنى، ويتآخى ذلك مع تجريد الدحيّة من الأوزان الإيقاعيّة المركّبة. وفي الغالب باتت حركة الجسد تقتصر على ثني الأقدام، والتصفيق برتابة، وهزّة الرأس، أمّا في مناطق أخرى فزالت هزّة الرأس أيضًا، بينما في الجليل مثلًا، اختفت الرقصة تمامًا، وبقيت "السحجة" الفلسطينيّة الاعتياديّة.
وفقدت الدحيّة أيضًا، في مواقع كثيرة، خصوصيّة اللهجات البدويّة وثقلها، واختفت كذلك في بعض الأماكن، صيحات الراقصين بين الأبيات؛ لتستبدل بها "لازمة" ملحونة، "هو هو هو"، الّتي قدّمها شادي البوريني وقاسم النجّار في "دحيّة ستّي" لأوّل مرّة، ولم تكن قبل ذاك جزءًا من الدحيّة.
لاهجر قصرك وارجع بيت الشعر
حصل التغيّر الأكثر جدّيّة في النقب؛ تغيّر فنّ الدحيّة هناك، بشكلٍ سمح له بلقاء تطوّرات أخرى في الفنّ الشعبيّ، المتناول في باقي المناطق الفلسطينيّة، كما في كلّ شيء؛ كان للعوامل التقنيّة دورها.
إنّ دخول الآلات الموسيقيّة - الأورغ غالبًا - بسّط الأوزان الإيقاعيّة المركّبة، وسهّل بعدئذٍ حركة الرقص، ووجود الإيقاع الإلكترونيّ خفّف اعتماد الأوزان على حركة جسد الراقصين وتصفيقهم؛ ما أتاح للمزيد من الشباب، غير المتمرّسين بأصول هذا الفنّ الشعبيّ، أن يشاركوا فيه.
على الصعيد الاجتماعيّ؛ فقد زادت علاقة النقب مع المثلّث والجليل والضفّة، على جميع الأصعدة، ومن ضمن ذلك الصعيد الفنّيّ. ويمكن أن نجد عددًا ضخمًا من الحفلات والأعراس، الّتي أحياها مغنّون شعبيّون من الجليل والمثلّث، في النقب، منهم عصام العمر وهاني الشوشاري ورائد كبها وغيرهم، لكنّ هذا ليس التغيير الأهمّ.
2012... نقطة ذروة
شهد النقب تغيّرات عميقة في أنماط الحياة والممارسات الاجتماعيّة؛ لأسباب موضوعيّة وطبيعيّة كثيرة، لكنّ جزءًا مهمًّا منها ارتبط أيضًا بـ "التمدين" القسريّ، الّذي فرضته إسرائيل على الناس؛ إذ أجبرتهم بالقوّة والقمع والهدم والتفقير، على هجر حياة البداوة والسكن في "البلدات الحكوميّة".
لقد خلقت هذه التغيّرات تعاملًا مع الموروث الثقافيّ؛ باعتباره موضوعًا أثنولوجيًّا، وليس جزءًا عضويًّا من حياة الناس الطبيعيّة؛ وهكذا ظهرت توجّهات تطالب "بالعودة" إلى الفنّ الشعبيّ فعلًا اجتماعيًّا وسياسيًّا واعيًا؛ يهدف إلى صيانة الهويّة... ألا يذكّر هذا بالأغنية: "لاهجر قصرك وارجع بيت الشعر... وانسى مدينة لو أرضها من تِبِر؟"؛ أي ذهب.
هذه الظروف الاجتماعيّة، حوّلت الفنّ الشعبيّ إلى سلعة تجاريّة في سوق الأعراس والحفلات، سلعة تباع وتُشترى، وهذه الحالة - على إشكاليّتها الأليمة - أنشأت منافسة بين "البدّيعة"، وزادت الحاجة إلى سباق الإعلان والتسجيل.
أمّا التسجيل، فعامل فارق في انتشار الدحيّة؛ إذ كانت لسنوات طويلة تتناقل شفهيًّا. ظهرت أسماء بارزة مثل سالم الأعسم، ومعين الأعسم، ومايكل وعودة أبو قرينات، ويوسف الصرايعة، وغيرهم كثر. وظهرت فرق مثل "نسمات الجنوب" و"فهود البادية" و"نجوم التراث"، كالفرق المتخصّصة بأداء الرقصات الأصليّة، ووصلت هذه الحالة ذروة حقيقيّة عام 2012، حين أقيم "مهرجان السامر الأوّل في النقب للتراث البدويّ".
مقتل شفيق كبها
مِدْيَن وعبد وأبو عبيد – شيوخ الدحيّة –المفصل المركزيّ في نقل الدحيّة إلى شمال فلسطين، وقد قدّم هؤلاء نسخًا ليّنة من الدحيّة، تفتقد الخشونة الأصيلة في الغناء التراثيّ، وكانت اللهجة في هذه النسخ أقرب إلى لهجات شمال فلسطين، ولا سيّما اللهجات البدويّة في قرى الجليل، وهي مألوفة لأهالي البلدات غير البدويّة المجاورة.
مِدْيَن الطبّاش، عازف الأورغ من حلف الطبّاش، وعبد حامد، مغنّ شعبيّ من الناصرة، وعلي أبو عبيد، عازف أورغ من بسمة طبعون، ورائد أمارة، وبلال كعبيّة، وغيرهم، ممّن أنتجوا معظم أغاني الدحيّة الّتي اشتهرت - وهي قليلة بالمناسبة - لكنّ وصولهم إلى هذه الصيغة الّتي لاقت قبولًا في المناطق غير البدويّة، تَطَلّب تغيّرات كثيرة لتلتقي مع مشهد الدحيّة المزدهر في النقب، لكن قبل التفصيل في هذه المسارات، تجدر الإشارة إلى حدث عينيّ، له دور في انشغال هؤلاء بنبش تراث الدحيّة: مقتل شفيق كبها.
ترك غياب هذا الرجل فراغًا عظيمًا، في مجال الأغنية الشعبيّة وتطوّرها، وخلق حاجة لدى المغنّين الشعبيّين - ومعظمهم تتلمذ على يده وعملوا معه، مثل أمارة الّذي عمل مع كبها أكثر من 10 سنوات – خلق حاجة إلى البحث عن طريق جديدة يتحرّكون فيها ويتميّزون، بعيدًا عن نسخ تجربة كبها. ويتّضح من مقابلات مع رائد أمارة مثلًا، أنّه على وعي بما صنعه شفيق كبها، في مبنى العرس الفلسطينيّ ومضامينه؛ وهو ما يلفت الانتباه إلى التشابه الكبير، بين ما يفعله هؤلاء الفنّانون اليوم، وما فعله شفيق كبها في أوّل الثمانينات، من إدخال للأغنية العراقيّة إلى "مركز الفرح الفلسطينيّ".
تراكمت في موسيقى الأعراس والأغاني الشعبيّة، في شمال فلسطين، مراحل عدّة يجمعها أنّها لم تتولّد من داخل هذه المنطقة، وإن نظرنا إلى هذه المراحل الّتي دخلت إلى وعي الناس وذائقتهم، يصبح حضور الدحيّة في العامين الأخيرين أمرًا لا غرابة فيه.
أبو بسّام الجلماوي يعطي ضوء الأخضر
الأغنية البدويّة ليست جديدة تمامًا على فلسطينيّي الشمال؛ تأثّروا بسميرة توفيق، وفهد بلّان، ودلال الشمالي، وغيرهم، والجامع بينهم أنّهم من فنّاني الأغنية البدويّة السوريّة تحديدًا.
تناول فلسطينيّو الشمال الأغاني البدويّة من البداوة السوريّة، ولا يقتصر الأمر على مَن ظهروا في التلفزيون الأبيض والأسود؛ فإنّ واحدة من المراحل الأوّليّة الّتي هيّأت فلسطينيّي الشمال للدحيّة اليوم؛ نجدها في بدايات سنوات الـ 2000؛ علي الديك في "سَمْرا وانا الحاصودي" و"علّوش"، مهّد الطريق للهجات ثقيلة لم نعتد على سماعها، ثمّ جاء مفترق الطرق الأساسيّ: سارية السوّاس وعلي العراقي.
لقد غيّرت هذه المحاورة تناولنا للأغنية الشعبيّة، وأعادت الحدّاية إلى سيّارات الشباب، الهادرة نحو مستقبل إلكترونيّ. وكان صوت أبو بسّام، الكهل الأصيل، كأنّه يمنح هذا الإيقاع الإلكترونيّ شرعيّة للاستمرار، وكان حواره العنيف مع نجله نعمان، يحكي قصّة اشتباك أجيال لن ينتهي أبدًا.
أضف تعليق