مثقف اليقين.. مثقف القطيع
«مثقف القطيع» هو أسوأ تمثلات «مثقف اليقين»، فهو المثقف التابع بعماء وولاء مطلق أو شبه مطلق للجهة التي يمنحها ولاءه والتي قد تكون السلطة الحاكمة، أو الطائفة الدينية، أو العقيدة الأيديولوجية، أو الحزب السياسي، أو الفئة الاجتماعية أو الإثنية التي ينتمي إليها.
ويقوم بوظيفة الدفاع المستميت عن جماعته وتبرير فكرها وثقافتها حتى لو أصابهما الجمود والعنصرية، ويدافع عن سلوكيات تلك الجماعة حتى لو ظلمت الآخرين أو تضمنت تلك السلوكيات جرائم لا جدال فيها.
واستخدام هذا المفهوم «مثقف اليقين، مثقف القطيع» عوضاً عن مفهوم «المثقف الأيديولوجي» المُشتهر في الأدبيات ذات العلاقة يوسّع من دائرة تصنيف المثقفين اليقينيين ويدخل فيها شرائح كثيرة لا تصدر في يقينياتها عن الأيديولوجيات الكلاسيكية المعروفة.
«مثقف اليقين، مثقف القطيع» قد يكون مثقف السلطة، وقد يكون مثقفاً ماركسياً، أو إسلاموياً، أو قومياً، أو ليبرالياً، أو حداثياً، أو قد يكون مثقف الوضع القائم، أو قد يكون مثقف الطائفة، أو الأقلية (أو الأغلبية) الإثنية، وهكذا.
وقد يندرج المثقف ذاته تحت أكثر من توصيف معاً، فقد يكون مثقف سلطة ومثقف أيديولوجيا معينة في الوقت عينه.
وعلى الضد من ذلك وتفادياً لأي تعميمات غير دقيقة، فإنّ المثقف قد يكون منتمياً لأيّ من تلك الولاءات وفي الوقت ذاته يكون مثقفاً ناقداً أو قلِقاً.
أي أنه ليس بالضرورة ولا من الموضوعية الزعم بأن كلّ مثقف أيديولوجي هو مثقف يقيني أو مثقف قطيع بالتعريف، ذلك أن الشواهد التاريخية تدلل على أن كثيراً من المثقفين والمفكرين المهمين كانوا ينتمون إلى أيديولوجيات مُحددة، لكن قناعاتهم الأيديولوجية لم توقف فاعلية منهجهم النقدي الشكوكي والقلِق.
وفي الوقت ذاته، ليس بالضرورة ولا من الموضوعية القول إنّ كلّ مثقف ليبرالي أو حداثي هو مثقف ناقد أو قلِق بالتعريف، ذلك أنّ الشواهد التاريخية ذاتها تفيدنا بقوائم من المثقفين الليبراليين والحداثيين الذين كانوا أقرب إلى توصيف المثقف اليقيني ومثقف القطيع منهم إلى أي توصيف نقدي أو قلِق.
«مثقف اليقين، مثقف القطيع» لا يمارس ما يمارسه القطيع من تبعية مُبتذلة للغرائزية الجمعوية فحسب، بل يوظّف قدراته الكلامية والثقافوية لتسويغ تلك الممارسات والدفاع عن عماها وتغولاتها.
هو مثقف القطيع والناطق باسمه والمنافح عن جهالاته. مثقف القطيع يشتغل على تعميق ومأسسة الجهل وتجميله وتصنيمه، وهو التعبير الأقصى والأبشع لمثقف السلطة.
فهذا الأخير مكشوفةٌ ممارساته ومفضوح أمام بقية شرائح الناس. لكنّ مثقف القطيع يتدثر بحماية القطيع، بقيمه المُعوجّة، بانحرافاته، وبالإجماعات الغيبية والغبية السائدة فيه، والتي عوض أن يفككها يتواطأ معها ويتحالف مع دعاتها، ويعتاش على أصوات الجهل حوله والمتصايحة بتأييده ومناصرته.
وتعود تلك المناصرة والمنافحة القوية في بعض جذورها إلى سياقات أوسع. ففي المجتمعات النامية والمتفشّية الأمّية (إن بمعناها الأبجدي أو الثقافي الأوسع) يُطالب المثقف بأن يكون منافحاً دوماً وأبداً عن مجتمعه المحلي بكل ما فيه من اختلالات، ويعود سبب هذه المنافحة إلى تجربة وقوع معظم هذه المجتمعات تحت الاستعمار العسكري المباشر، ثم غير المباشر، واستبداد أنظمة ما بعد الاستقلال.
وعلى هذا المثقف، بحسب المطالبة تلك، ألا يرى سوى ما هو إيجابي ورشيد في مجتمعه ووطنه فيتحمّس له ويعلي من شأنه، ويغضّ النظر، في الآن ذاته، عن كل ما هو سلبي ووضيع ويتناساه.
قائمة القضايا التي يتفادى مثقف القطيع الخوض فيها ويتواطأ في السكوت عليها طويلة، منها ما هو اجتماعي له علاقة بعادات وقيم، وخاصة ما يتعلق بالمرأة، ومنها ما هو ثقافي ديني، وخاصة ما له علاقة بأحكام وتفسيرات متعصّبة ومصادمة للواقع المعاصر، ومنها ما هو سياسي تتبناه السلطة الحاكمة لا يتردد مثقف القطيع في تبنّيه والدفاع عنه وهكذا إنه «مثقف مساير» كما يصفه يحيى بن الوليد منخرط في صناعة «الإجماع السكوتي» في مجتمعه.
يتوقع القطيع من مثقفه أن يحمل راية الدفاع عن كل قضية تُثار بشأن مسائل خلافية مجتمعية، ويكون فيها موقف مجتمعه المحلي مهزوزاً أو مستحقاً لنقد موضوعي.
يُطالب أن يكون «ابن غزية» قلباً وقالباً، يغزو حيث يغزو القطيع، ويقعد حيث يقعد القطيع. ويُرفض منه ليس الخروج عن القطيع وفكره وممارسته فقط، بل حتى حرصه على تصويب بعض ما يراه من أخطائه.
فالقطيع هو الصائب دوماً، والأفراد الناقدون له مارقون فحسب. يُطلب منه ألا يكون ذاته، أن يكون خلاف تعقّله النقدي لنفسه ولمن حوله أصلاً: ذلك أن تخلي المثقف عن النقد يعني توقّف أحقيته بالاتصاف بوصف المثقف في أول المطاف وآخره.
والقطيع هنا حال مجتمعية، وذهنية، وليست هي التعريف الحرفي والمباشر لمقصد اللفظة. فالقطيع قد يكون المجتمع بأسره، أو الحزب، أو الدولة، أو العشيرة العائلية الفعلية، أو الطائفة أو الإثنية أو الدين، أو الأمّة بأسرها.
في كل موقع من هذه المواقع، وفي كل وقت من الأوقات، تتكرر القضية ذاتها: موضوعٌ ما يُثار لسبب أو لآخر، تقوم قائمة من تقوم ولا تقعد، في هبّات هي أقرب للاندفاعات القطيعية منها إلى أي تأمل وسلوك بشري معقلن، وخلالها يتم تسطير حدود الرأي العام للقطيع عبر سدنة نصّبوا أنفسهم عنوة رموزاً لصناعة وتوجيه ذلك الرأي العام المسكين، اجتماعياً ودينياً وثقافياً، ثم يصير من المروق تحدي تلك الحدود التي سطّرها أولئك، على تواضع إن لم نقل وضاعة رأيهم، وقلة حكمتهم في الكثير من الأحيان.
ولو لم تكن الأمّية الأبجدية والثقافية مكرَّسة ومدعّمة بممارسات فكرية متجمدة لما أمكن لعملية الاحتيال على الرأي العام أن تتم بالسهولة التي نراها في كل حين. ولو لم يكن «المثقف ... ابن القطيع» متواطئاً بأقصى ما يكون معنى التواطؤ ضد تنوير مجتمعه، لما أمكن لحالة الدوران على النفس التي تشهدها مجتمعاتنا أن تستمر بشكل مدهش حتى هذه اللحظة.
«مثقف القطيع» متهم إذن في المساهمة بتعميق الجهل المستديم الذي يكبّل القطيع ومجتمعاته وأفراده وشرائحه ويعيق بروز ما يمكن أن يخفف من ذلك الجهل، فهو يبرر للقطيع كل خطاياه، ويحسن له مساوئه، ويجمل صورته المزرية لتبدو زاهية براقة وهي على النقيض من ذلك.
هو يمتلك الخطاب، والوسيلة، والمصادر، والنبرة العالية، والشرعية القطيعية كي يصوّب ويخطّئ أياً كان، ويطلق النيران على كل من تسوّل له نفسه النظر إلى ذات القطيع ونقده، ولو على سبيل الملل من ديمومة نقد «الآخرين»، عند كل منعطف وعلى رأس أي قضية.
أضف تعليق