»الشرعية« بين خيار البرنامج الوطني.. وخيار »الانتحار السياسي«
لا يتردد بعض كبار الحقوقيين الدوليين، في باريس، في وصف الوجود الاسرائيلي، في القدس، الشرقية والضفة الفلسطينية وقطاع غزة، بأنه عدوان يومي، وحرب مستمرة، تمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، تنتهك بذلك قرارات الشرعية الدولية ومبادئ القانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان، ومبادئ العلاقات بين الدول والشعوب، كما صاغتها الأمم المتحدة. ويضيف هؤلاء أن ما تقوم به إسرائيل، هو أبعد من كونه احتلالاً. فهو يتجاوز حدود الاحتلال بسلسلة واسعة من الممارسات اليومية التي تتناقض و صلاحيات الاحتلال، كما نصت عليها القوانين الدولية.
أبعد من الاحتلال
• فالاستعمار الاستيطاني، برأيي هؤلاء يتجاوز صلاحيات الاحتلال والقوانين الدولية وبالتالي فإن كل شبر تصادره السلطات الإسرائيلية، من الفلسطينيين، وكل بيت فلسطيني تهدمه تحت أية ذريعة كانت، هو عمل عدواني ضد الشعب الفلسطيني، وهو مخالفة للقوانين الدولية التي لا تجيز لسلطات الاحتلال أن تقتلع السكان الأصليين أبناء البلد المحتل، لتحل محلهم قوماً آخرين، تستحضرهم سلطات الاحتلال من بلادها.
• واعتقال المواطنين الفلسطينيين، ونقلهم إلى سجون داخل إسرائيل ، وخارج المناطق التي احتلتها في الحرب العدوانية عام 1967، هو أيضاً شكل من أشكال الحرب العدوانية اليومية ضد الفلسطينيين، لأن القوانين الدولية لا تجيز لسلطات الاحتلال حجز المعتقلين خارج بلادهم ونقلهم إلى بلاد أخرى تتبع للجهة القائمة بالاحتلال.
• وتهويد المدن بما في ذلك إجلاء سكانها الأصليين لصالح مستعمرين مستوطنين، وبما في ذلك أيضاً تغيير أسماء الأماكن والشوارع والمراكز الدينية وغيرها، يدخل في باب المخالفات للقانون الدولي التي تضبط سلوك الاحتلال، كما تم التوافق عليها في المنظمات الدولية، وبشكل خاص منظمة الأمم المتحدة.
ويمكن للحقوقيين الدوليين، أن يستفيضوا في عرض الواقع الحالي للمناطق الفلسطينية المحتلة، وأن يدينوا ممارسات سلطات الاحتلال، وأن يصفوها بأنها أعمال عدوانية مستمرة منذ الحرب العدوانية عام 1967 ضد الشعب الفلسطيني.
ويمكن في هذا السياق أن نذكر ما يجري في خان الأحمر، من محاولات محمومة لهدم القرية البدوية، وتهجير سكانها لصالح المشاريع الاستعمارية المتعلقة بخطة تهويد القدس وطمس معالمها الفلسطينية العربية، وتهجير سكانها، على أنه يندرج هو أيضاً في إطار الحرب العدوانية المستمرة التي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.
تعطيل القرار 181
ولعل أهم ما يذكره الحقوقيون الدوليون في العاصمة الفرنسية باريس، هو أن تعطيل إسرائيل ومنعها الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الفلسطينية المستقلة، بموجب القرار 181، الذي قامت على أساسه دولة إسرائيل، هو أحد أبرز مظاهر العدوان اليومي الاسرائيلي على الفلسطينيين. ويضيفون أنه لا نقاشاً قانونياً في حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الوطنية المستقلة. فهذا حق تكفله الشرعية الدولية بقرارها رقم 181. وأن على الفلسطينيين أن يحرروا أنفسهم من أية اتفاقيات من أية اتفاقيات أو بروتوكولات تتعارض مع القرار 181، كإتفاق أوسلو، وبروتوكول باريس، والاعتماد على القرار الدولي 181 في تأكيد حقهم في دولة مستقلة على الأجزاء التي قررها لهم من فلسطين الانتدابية. ففي إطار أوسلو، يقول هؤلاء إن مستقبل القضية الفلسطينية يبقى غامضاً، لأنه يبقي كافة القضايا موضوعاً تفاوضياً، ويعتبر أن ما يتم الاتفاق عليه في المفاوضات هو التطبيق العملي لقرارات الأمم المتحدة.
ويرى الحقوقيون في هذا كله هرطقة قانونية لا سابق لها، تنسف القرار 181 وتعرض مستقبل الفلسطينيين للخطر، إذ تخضعهم لإرادة إسرائيل، وهذا ما يفسر، برأي هؤلاء، لماذا وصل اتفاق أوسلو إلى الطريق المسدود، والسبب برأيهم أن إسرائيل لا ترغب في أن ترى إلى جانبها دولة فلسطينية، وبالتالي رهن قيام الدولة الفلسطينية بالاتفاق مع إسرائيل، في إطار أوسلو، هو شكل من أشكال الانتحار السياسي، لأنه يشكل رضوخاً للعدوان الاسرائيلي استسلاماً له، وتفريطاُ فلسطينياً بالقوة القانونية لقضيتهم، التي يمكن أن تشكل واحدة من عناصر قوة القضية الفلسطينية.
أكبر عملية تزوير قانونية
ومن القضايا المهمة التي يسلط عليها الحقوقيون الدوليون في باريس أضواءهم الساطعة، هي في قولهم إن إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة الأميركية قامتا معاً، بأكبر عملية تزوير قانوني، حين وصفت الكفاح الفلسطيني ضد العدوان وتصديهم له، بأنه إرهاب، ويضيفون أن حق الشعوب في مقاومة الغزو والعدوان والإحتلال، حق مكفول دولياً، إن بالسلاح أو بغيره، ولا ينطبق وصف الإرهاب إطلاقاً على نضال الشعب الفلسطيني وكفاحه. بل هو كفاح مشروع تكفله القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة. إنهم يدافعون عن أرضهم، وعن حقهم في إقامة دولة قررتها الأمم المتحدة بقرارها رقم 181. وبناء عليه، يقول الحقوقيون الدوليون، إن قرار الحكومة الإسرائيلية، بالسطو على أموال المقاصة الفلسطينية، بذريعة أن السلطة الفلسطينية ترعى عائلات الشهداء والأسرى، ما هو إلا شكل من أشكال السرقة الموصوفة، التي تحاول من جهة أن تضعف موارد السلطة الفلسطينية، أي موارد الشعب الفلسطيني، ومن جهة أخرى أن تحشر السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني في الزاوية الضيقة بتهمة ممارسة الإرهاب ورعايته، وأن تقدم نفسها، أخيراً، وليس آخراً، طرفاً رئيساً، في الجبهة الأميركية لمكافحة الإرهاب. والأمر ينطبق على قرار إدارة ترامب حجب الأموال عن السلطة الفلسطينية بالذريعة نفسها.
نفاق أوروبي
لكن ما يثر الدهشة الحقوقيين الدوليين، في العاصمة الفرنسية باريس، وسخطهم في الوقت نفسه، هو ما يتردد في أنحاء الإتحاد الأوروبي، عن قرار مماثل ستتخذه دول الإتحاد، بحجب أو تقليص مساعداتها للشعب الفلسطيني، وسلطته، في الضفة، بالذريعة نفسها: أي إن السلطة الفلسطينية ترعى الإرهابيين وتمدهم بالمال. ويعتبرون مثل هذه الخطوة إن اتخذتها دول الإتحاد الأوروبي، شكلاً من أشكال النفاق السياسي، الذي يمارسه الإتحاد الأوروبي، وبما يتعارض مع القوانين الأوروبية في تعريفها للإرهاب، والتمييز بينه وبين حق الشعوب في الكفاح من أجل حريتها. ويتعارض كذلك مع المواقف التي تتخذها دول الإتحاد (أو معظمها) في التصويت في الأمم المتحدة، في مجلس الأمن، أو الجمعية العامة، على القرارات ذات الصلة بالمسألة الفلسطينية، وبممارسات سلطات الإحتلال والغزو الإسرائيلي.
ويؤكد الحقوقيون الدوليون بالمقابل، أن المعتقلين الفلسطينيين في سجون الإحتلال الإسرائيلي هم معتقلون سياسيون، وليسوا أمنيين كما تصفهم إسرائيل، فهم مناضلون من أجل حرية شعبهم وقيام دولتهم المستقلة. أما من تصفهم السلطات الفلسطينية بالشهداء، فهم ضحايا الإحتلال وأعماله العدوانية. فضلاً عن أن الإعتقال الجماعي لألاف الفلسطينيين يدخل في باب جريمة الحرب. كما تصنف عمليات القتل التي تمارسها قوات الإحتلال ضد الفلسطينيين أنها جرائم قتل متعمد، يدينها القانون ويدين فاعليها، ويتوجب محاكمتهم عليها، كما يتوجب على السلطة القائمة بالإحتلال، أن تدفع لأهالي الضحايا التعويضات المالية الضرورية، لا أن تحجب عنهم ما يتوفر لهم من مساعدات.
الوجه الآخر للصورة
بالمقابل، ماذا يقرأ المراقبون، في السلوك السياسي للسلطة الفلسطينية، والقيادة الرسمية في رام الله؟
يقول المراقبون إنه لا خلاف حول ارتفاع صوت القيادة الرسمية، في البيانات والخطابات، ضد الاحتلال، وضد صفقة العصر، وسياسة ترامب في المنطقة. ولا ينفي المراقبون أن القيادة الرسمية لعبت دوراً في تسخين الشارع الفلسطيني، في الأيام اللاحقة على إعلان ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأنها حافظت على هذا التسخين إلى حين انعقاد المجلس المركزي الفلسطيني في 15/1/2018.
بعدها جرى تبريد الشارع، وجرى في الوقت نفسه تخفيض نبرة الخطابات والبيانات. غير أن هذا كله، لم يقد القيادة الرسمية إلى القطيعة، لا مع الجانب الاسرائيلي، ولا مع الجانب الأميركي، ولا إلى إعادة النظر بالأسس التي تقوم عليها هذه العلاقات. أي بتعبير آخر، لم يتحول الاشتباك اللفظي، في البيان والخطاب، على لسان رئيس السلطة، وحكومتها، والناطقين بإسم فتح، إلى اشتباك سياسي وميداني، قانوني مع الطرفين الإسرائيلي والأميركي، بل اقتصر الاشتباك إما مع حماس، وقطاع غزة عبر العقوبات المفروضة على القطاع، أو في تصعيد شروط المصالحة.. وإما مع بعض أطراف المعارضة الفلسطينية، كالجبهتين الديمقراطية والشعبية. مع الديمقراطية في إطار اللجنة التنفيذية، ومع الشعبية في حجز استحقاقاتها وحقوقها المالية في الصندوق القومي. وإما مع الحركة الشعبية في الشارع.
ويرى المراقبون، وهم أصحاب خبرة في معرفة تفاصيل الوضع في بنيان السلطة وتراكيبها، أن القيادة الرسمية، وصفاً واسعاً من بيروقراطية السلطة، باتت تعبر في سياستها عن مصالح إجتماعية طبقية فئوية متكاملة، وأن حرصها على تفادي المواجهة الشاملة مع الاحتلال، ومع الجانب الأميركي، وعدم تغيير قواعد الاشتباك، وبقاءه في إطاره اللفظي، إنما من أجل صون مكاسب ومصالح هذه الشريحة الطبقية البيروقراطية. فأي تغيير في قواعد الاشتباك، تدرك القيادة الرسمية أن من شأنه أن يمس العديد من مصالحها الفئوية. لذلك يلاحظ أنها لا ترد على الهجمات الاسرائيلية، إلا بالبيانات والتصريحات والنداءات. ولا ترد على التحركات الأميركية في المنطقة إلا في الرهان على الدور العربي في رفض صفقة العصر، أو زرع الأوهام في صفوف الرأي العام عبر الإدعاء بفشل صفقة العصر أو الإيعاز لأصحاب الأعمدة في الصحف والمنصات الالكترونية الموالية للسلطة، للحديث عن الانتصارات التي حققتها القيادة على صفقة العصر، في تجاهل تام وتعتيم خطير على الخطوات العملية التي تخطوها هذه الصفقة، إما علناً، عبر الاجراءات الاسرائيلية والأميركية الأخيرة، وإما خلف الأبواب، حيث تدور محادثات في بعض العواصم العربية، لإزالة كل العقبات التي تعيق تقدم صفقة العصر خطوات إضافية إلى الأمام، وطرح مشاريع إنسانية تهدف إلى فصل قطاع غزة عن الضفة الفلسطينية، وتأهيل كل إقليم على حدة، ليستقيل استحقاقات صفقة العصر، وفق ما هو مخطط ومرسوم له، بشكل منفصل عن باقي المناطق المحتلة.
معركة الدفاع عن الشرعية
ولعل آخر ما ابتدعه العقل السياسي في قمة هرم السلطة، للتهرب من مسؤوليات التصدي الميداني، والعملي، لسياسات حكومة نتنياهو، وسياسة إدارة ترامب، هو حرف أهداف المعركة السياسية وكأنها أصبحت معركة الدفاع عن الشرعية. والمقصود، بالشرعية هنا، هو الرئيس محمود عباس. في وقت يدرك فيه الجميع، أن لا إسرائيل، ولا الولايات المتحدة، ولا الاتحاد الأوروبي، وضعت على جدول أعمالها مسألة شرعية الرئيس عباس.
ويرى المراقبون أن نغمة الشرعية هذه، هي نغمة يتم اللجوء إليها، للتعتيم على المواقف السياسية للقيادة الرسمية وعلى الأهداف الحقيقية لهذه السياسة.
فالدعوة للمجلس الوطني تمت تحت عنوان الشرعية. وتم إغراق المجلس الوطني بمئات الأعضاء في خدمة الشرعية، ليتبين، بشكل صارخ أن الشرعية كان المقصود بها شرعية اتفاقيات أوسلو وتجديد شرعية اتفاقيات أوسلو، وهو الموقف الذي أعلنه الرئيس محمود عباس في ختام كلمته الافتتاحية أمام المجلس الوطني، حين دعا أعضاءه إلى تبنى رؤيته للسلام كما تقدم بها إلى مجلس الأمن الدولي في 20/2/2018، مستعيداً من خلالها رهانه الفاشل على اتفاق أوسلو وبقاياه.
وعندما نهضت الضفة الفلسطينية، في رام الله ونابلس، وغيرها، منتصرة لقطاع غزة، وحقه في رفع العقوبات عنه، وحق موظفيه في استعادة حقوقهم المسلوبة، كشرت الأجهزة الأمنية في السلطة الفلسطينية عن أنيابها، ولجأت إلى أساليب القمع المعتمدة لدى الأنظمة الدكتاتورية، ضاربة بعرض الحائط، مبادئ الائتلاف الوطني، وأسس الوحدة الوطنية، مستنفرة ضد وحدة الشعب ووحدة مصيره، لشيء سوى الدفاع عن الشرعية، وكأن إعادة الحقوق لأصحابها من شأنه أن يهدد الشرعية.
وحتى عندما نزلت فتح، ومن هم في حكمها من فصائل أخرى إلى الشارع في نابلس، للرد على التحركات الشعبية واحتجاجها على أداء السلطة وجورها ضد قطاع غزة، رفعت شعار الشرعية، وكأن الشرعية باتت تشمل كل من هو مؤيد للسلطة في مواقفها السياسية وتقاعسها عن الاشتباك مع الاحتلال وإدارة ترامب.
أما كل من يقف موقفاً مغايراً فبات خارج خيمة الشرعية الممزقة، لاتفاق أوسلو.
وماذا بعد؟
سيبقى هذا السؤال مطروحاً على بساط البحث:
• ترامب لن يتراجع عن مشروع صفقة العصر. فهو لم يتعرض لضغوط عربية أو فلسطينية أو دولية تتطلب منه أو تفرض عليه التراجع. بل هو سائر في ذلك إلى الأمام خطوات ملموسة، إن على الصعيد الإقليمي (إيران، سوريا، حزب الله) أو على الصعيد الفلسطيني عبر الخطوات الكبيرة التي خطاها، من القدس إلى الإستيطان، إلى حق العودة، إلى الدولة الفلسطينية المستقلة،
• نتنياهو ماضٍ في سياسته. وأبرز ما فيها توسيع مشاريع الاستعمار الاستيطاني، وهندسة المزيد من القوانين لتوفر الظروف الإسرائيلية الداخلية لاستقبال استحقاقات الحل الدائم مع الفلسطينيين.
لم يتعرض نتنياهو، لا على الصعيد السياسي، أو القانوني، أو في الميدان، ما يدفعه لإعادة النظر في مشروعه أو التوقف عن التقدم به إلى الأمام. بل على العكس من ذلك، فهو يلقى تشجيعاً أميركاً وإسناداً غير محدود، كما بات يقيم علاقات واسعة مع بعض الأطراف العربية، ما حرره من الضغوط العربية وحّول قرارات القمم العربية إلى مجرد حبر على ورق.
• أما القيادة الرسمية فمازالت تمارس سياسة الرهان على الزمن، يقودها الوهم بإمكانية تعديل خطة ترامب وخطة نتنياهو والوصول معهما إلى حل وسط، وهو حل وهمي لا وجود له إلا في عقول من يرسمون السياسة العليا في القيادة الفلسطينية. وَهمٌ مصدره تخوف هذه القيادة من التقدم إلى الأمام مع مشروع ترامب ونتنياهو، ما يحولها إلى سلطة وظيفتها تنفيذ سياسات وخطط البيت الأبيض وتل أبيب، ما يفقدها موقعها السياسي في حسابات الحالة الوطنية. ومصدره في الوقت نفسه التخوف من التقدم إلى الأمام للاشتباك مع سياسة ترامب ونتنياهو، ما يخرجها من المعادلة الإقليمية، كما ترسمها واشنطن وتل أبيب، وبعض العواصم العربية. وإن كان هذا الخروج يتم التعويض عنه بصهر الحالة الوطنية الفلسطينية في إطار المشروع الوطني، وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية عنواناً للشعب الفلسطيني، وحركته الوطنية.
أما البقاء في الوسط، على وهم أن حلاً إنقاذياً ما، سوف يأتي لاحقاً، فهذه أفضل وصفة للانتحار السياسي.
أبعد من الاحتلال
• فالاستعمار الاستيطاني، برأيي هؤلاء يتجاوز صلاحيات الاحتلال والقوانين الدولية وبالتالي فإن كل شبر تصادره السلطات الإسرائيلية، من الفلسطينيين، وكل بيت فلسطيني تهدمه تحت أية ذريعة كانت، هو عمل عدواني ضد الشعب الفلسطيني، وهو مخالفة للقوانين الدولية التي لا تجيز لسلطات الاحتلال أن تقتلع السكان الأصليين أبناء البلد المحتل، لتحل محلهم قوماً آخرين، تستحضرهم سلطات الاحتلال من بلادها.
• واعتقال المواطنين الفلسطينيين، ونقلهم إلى سجون داخل إسرائيل ، وخارج المناطق التي احتلتها في الحرب العدوانية عام 1967، هو أيضاً شكل من أشكال الحرب العدوانية اليومية ضد الفلسطينيين، لأن القوانين الدولية لا تجيز لسلطات الاحتلال حجز المعتقلين خارج بلادهم ونقلهم إلى بلاد أخرى تتبع للجهة القائمة بالاحتلال.
• وتهويد المدن بما في ذلك إجلاء سكانها الأصليين لصالح مستعمرين مستوطنين، وبما في ذلك أيضاً تغيير أسماء الأماكن والشوارع والمراكز الدينية وغيرها، يدخل في باب المخالفات للقانون الدولي التي تضبط سلوك الاحتلال، كما تم التوافق عليها في المنظمات الدولية، وبشكل خاص منظمة الأمم المتحدة.
ويمكن للحقوقيين الدوليين، أن يستفيضوا في عرض الواقع الحالي للمناطق الفلسطينية المحتلة، وأن يدينوا ممارسات سلطات الاحتلال، وأن يصفوها بأنها أعمال عدوانية مستمرة منذ الحرب العدوانية عام 1967 ضد الشعب الفلسطيني.
ويمكن في هذا السياق أن نذكر ما يجري في خان الأحمر، من محاولات محمومة لهدم القرية البدوية، وتهجير سكانها لصالح المشاريع الاستعمارية المتعلقة بخطة تهويد القدس وطمس معالمها الفلسطينية العربية، وتهجير سكانها، على أنه يندرج هو أيضاً في إطار الحرب العدوانية المستمرة التي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.
تعطيل القرار 181
ولعل أهم ما يذكره الحقوقيون الدوليون في العاصمة الفرنسية باريس، هو أن تعطيل إسرائيل ومنعها الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الفلسطينية المستقلة، بموجب القرار 181، الذي قامت على أساسه دولة إسرائيل، هو أحد أبرز مظاهر العدوان اليومي الاسرائيلي على الفلسطينيين. ويضيفون أنه لا نقاشاً قانونياً في حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الوطنية المستقلة. فهذا حق تكفله الشرعية الدولية بقرارها رقم 181. وأن على الفلسطينيين أن يحرروا أنفسهم من أية اتفاقيات من أية اتفاقيات أو بروتوكولات تتعارض مع القرار 181، كإتفاق أوسلو، وبروتوكول باريس، والاعتماد على القرار الدولي 181 في تأكيد حقهم في دولة مستقلة على الأجزاء التي قررها لهم من فلسطين الانتدابية. ففي إطار أوسلو، يقول هؤلاء إن مستقبل القضية الفلسطينية يبقى غامضاً، لأنه يبقي كافة القضايا موضوعاً تفاوضياً، ويعتبر أن ما يتم الاتفاق عليه في المفاوضات هو التطبيق العملي لقرارات الأمم المتحدة.
ويرى الحقوقيون في هذا كله هرطقة قانونية لا سابق لها، تنسف القرار 181 وتعرض مستقبل الفلسطينيين للخطر، إذ تخضعهم لإرادة إسرائيل، وهذا ما يفسر، برأي هؤلاء، لماذا وصل اتفاق أوسلو إلى الطريق المسدود، والسبب برأيهم أن إسرائيل لا ترغب في أن ترى إلى جانبها دولة فلسطينية، وبالتالي رهن قيام الدولة الفلسطينية بالاتفاق مع إسرائيل، في إطار أوسلو، هو شكل من أشكال الانتحار السياسي، لأنه يشكل رضوخاً للعدوان الاسرائيلي استسلاماً له، وتفريطاُ فلسطينياً بالقوة القانونية لقضيتهم، التي يمكن أن تشكل واحدة من عناصر قوة القضية الفلسطينية.
أكبر عملية تزوير قانونية
ومن القضايا المهمة التي يسلط عليها الحقوقيون الدوليون في باريس أضواءهم الساطعة، هي في قولهم إن إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة الأميركية قامتا معاً، بأكبر عملية تزوير قانوني، حين وصفت الكفاح الفلسطيني ضد العدوان وتصديهم له، بأنه إرهاب، ويضيفون أن حق الشعوب في مقاومة الغزو والعدوان والإحتلال، حق مكفول دولياً، إن بالسلاح أو بغيره، ولا ينطبق وصف الإرهاب إطلاقاً على نضال الشعب الفلسطيني وكفاحه. بل هو كفاح مشروع تكفله القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة. إنهم يدافعون عن أرضهم، وعن حقهم في إقامة دولة قررتها الأمم المتحدة بقرارها رقم 181. وبناء عليه، يقول الحقوقيون الدوليون، إن قرار الحكومة الإسرائيلية، بالسطو على أموال المقاصة الفلسطينية، بذريعة أن السلطة الفلسطينية ترعى عائلات الشهداء والأسرى، ما هو إلا شكل من أشكال السرقة الموصوفة، التي تحاول من جهة أن تضعف موارد السلطة الفلسطينية، أي موارد الشعب الفلسطيني، ومن جهة أخرى أن تحشر السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني في الزاوية الضيقة بتهمة ممارسة الإرهاب ورعايته، وأن تقدم نفسها، أخيراً، وليس آخراً، طرفاً رئيساً، في الجبهة الأميركية لمكافحة الإرهاب. والأمر ينطبق على قرار إدارة ترامب حجب الأموال عن السلطة الفلسطينية بالذريعة نفسها.
نفاق أوروبي
لكن ما يثر الدهشة الحقوقيين الدوليين، في العاصمة الفرنسية باريس، وسخطهم في الوقت نفسه، هو ما يتردد في أنحاء الإتحاد الأوروبي، عن قرار مماثل ستتخذه دول الإتحاد، بحجب أو تقليص مساعداتها للشعب الفلسطيني، وسلطته، في الضفة، بالذريعة نفسها: أي إن السلطة الفلسطينية ترعى الإرهابيين وتمدهم بالمال. ويعتبرون مثل هذه الخطوة إن اتخذتها دول الإتحاد الأوروبي، شكلاً من أشكال النفاق السياسي، الذي يمارسه الإتحاد الأوروبي، وبما يتعارض مع القوانين الأوروبية في تعريفها للإرهاب، والتمييز بينه وبين حق الشعوب في الكفاح من أجل حريتها. ويتعارض كذلك مع المواقف التي تتخذها دول الإتحاد (أو معظمها) في التصويت في الأمم المتحدة، في مجلس الأمن، أو الجمعية العامة، على القرارات ذات الصلة بالمسألة الفلسطينية، وبممارسات سلطات الإحتلال والغزو الإسرائيلي.
ويؤكد الحقوقيون الدوليون بالمقابل، أن المعتقلين الفلسطينيين في سجون الإحتلال الإسرائيلي هم معتقلون سياسيون، وليسوا أمنيين كما تصفهم إسرائيل، فهم مناضلون من أجل حرية شعبهم وقيام دولتهم المستقلة. أما من تصفهم السلطات الفلسطينية بالشهداء، فهم ضحايا الإحتلال وأعماله العدوانية. فضلاً عن أن الإعتقال الجماعي لألاف الفلسطينيين يدخل في باب جريمة الحرب. كما تصنف عمليات القتل التي تمارسها قوات الإحتلال ضد الفلسطينيين أنها جرائم قتل متعمد، يدينها القانون ويدين فاعليها، ويتوجب محاكمتهم عليها، كما يتوجب على السلطة القائمة بالإحتلال، أن تدفع لأهالي الضحايا التعويضات المالية الضرورية، لا أن تحجب عنهم ما يتوفر لهم من مساعدات.
الوجه الآخر للصورة
بالمقابل، ماذا يقرأ المراقبون، في السلوك السياسي للسلطة الفلسطينية، والقيادة الرسمية في رام الله؟
يقول المراقبون إنه لا خلاف حول ارتفاع صوت القيادة الرسمية، في البيانات والخطابات، ضد الاحتلال، وضد صفقة العصر، وسياسة ترامب في المنطقة. ولا ينفي المراقبون أن القيادة الرسمية لعبت دوراً في تسخين الشارع الفلسطيني، في الأيام اللاحقة على إعلان ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأنها حافظت على هذا التسخين إلى حين انعقاد المجلس المركزي الفلسطيني في 15/1/2018.
بعدها جرى تبريد الشارع، وجرى في الوقت نفسه تخفيض نبرة الخطابات والبيانات. غير أن هذا كله، لم يقد القيادة الرسمية إلى القطيعة، لا مع الجانب الاسرائيلي، ولا مع الجانب الأميركي، ولا إلى إعادة النظر بالأسس التي تقوم عليها هذه العلاقات. أي بتعبير آخر، لم يتحول الاشتباك اللفظي، في البيان والخطاب، على لسان رئيس السلطة، وحكومتها، والناطقين بإسم فتح، إلى اشتباك سياسي وميداني، قانوني مع الطرفين الإسرائيلي والأميركي، بل اقتصر الاشتباك إما مع حماس، وقطاع غزة عبر العقوبات المفروضة على القطاع، أو في تصعيد شروط المصالحة.. وإما مع بعض أطراف المعارضة الفلسطينية، كالجبهتين الديمقراطية والشعبية. مع الديمقراطية في إطار اللجنة التنفيذية، ومع الشعبية في حجز استحقاقاتها وحقوقها المالية في الصندوق القومي. وإما مع الحركة الشعبية في الشارع.
ويرى المراقبون، وهم أصحاب خبرة في معرفة تفاصيل الوضع في بنيان السلطة وتراكيبها، أن القيادة الرسمية، وصفاً واسعاً من بيروقراطية السلطة، باتت تعبر في سياستها عن مصالح إجتماعية طبقية فئوية متكاملة، وأن حرصها على تفادي المواجهة الشاملة مع الاحتلال، ومع الجانب الأميركي، وعدم تغيير قواعد الاشتباك، وبقاءه في إطاره اللفظي، إنما من أجل صون مكاسب ومصالح هذه الشريحة الطبقية البيروقراطية. فأي تغيير في قواعد الاشتباك، تدرك القيادة الرسمية أن من شأنه أن يمس العديد من مصالحها الفئوية. لذلك يلاحظ أنها لا ترد على الهجمات الاسرائيلية، إلا بالبيانات والتصريحات والنداءات. ولا ترد على التحركات الأميركية في المنطقة إلا في الرهان على الدور العربي في رفض صفقة العصر، أو زرع الأوهام في صفوف الرأي العام عبر الإدعاء بفشل صفقة العصر أو الإيعاز لأصحاب الأعمدة في الصحف والمنصات الالكترونية الموالية للسلطة، للحديث عن الانتصارات التي حققتها القيادة على صفقة العصر، في تجاهل تام وتعتيم خطير على الخطوات العملية التي تخطوها هذه الصفقة، إما علناً، عبر الاجراءات الاسرائيلية والأميركية الأخيرة، وإما خلف الأبواب، حيث تدور محادثات في بعض العواصم العربية، لإزالة كل العقبات التي تعيق تقدم صفقة العصر خطوات إضافية إلى الأمام، وطرح مشاريع إنسانية تهدف إلى فصل قطاع غزة عن الضفة الفلسطينية، وتأهيل كل إقليم على حدة، ليستقيل استحقاقات صفقة العصر، وفق ما هو مخطط ومرسوم له، بشكل منفصل عن باقي المناطق المحتلة.
معركة الدفاع عن الشرعية
ولعل آخر ما ابتدعه العقل السياسي في قمة هرم السلطة، للتهرب من مسؤوليات التصدي الميداني، والعملي، لسياسات حكومة نتنياهو، وسياسة إدارة ترامب، هو حرف أهداف المعركة السياسية وكأنها أصبحت معركة الدفاع عن الشرعية. والمقصود، بالشرعية هنا، هو الرئيس محمود عباس. في وقت يدرك فيه الجميع، أن لا إسرائيل، ولا الولايات المتحدة، ولا الاتحاد الأوروبي، وضعت على جدول أعمالها مسألة شرعية الرئيس عباس.
ويرى المراقبون أن نغمة الشرعية هذه، هي نغمة يتم اللجوء إليها، للتعتيم على المواقف السياسية للقيادة الرسمية وعلى الأهداف الحقيقية لهذه السياسة.
فالدعوة للمجلس الوطني تمت تحت عنوان الشرعية. وتم إغراق المجلس الوطني بمئات الأعضاء في خدمة الشرعية، ليتبين، بشكل صارخ أن الشرعية كان المقصود بها شرعية اتفاقيات أوسلو وتجديد شرعية اتفاقيات أوسلو، وهو الموقف الذي أعلنه الرئيس محمود عباس في ختام كلمته الافتتاحية أمام المجلس الوطني، حين دعا أعضاءه إلى تبنى رؤيته للسلام كما تقدم بها إلى مجلس الأمن الدولي في 20/2/2018، مستعيداً من خلالها رهانه الفاشل على اتفاق أوسلو وبقاياه.
وعندما نهضت الضفة الفلسطينية، في رام الله ونابلس، وغيرها، منتصرة لقطاع غزة، وحقه في رفع العقوبات عنه، وحق موظفيه في استعادة حقوقهم المسلوبة، كشرت الأجهزة الأمنية في السلطة الفلسطينية عن أنيابها، ولجأت إلى أساليب القمع المعتمدة لدى الأنظمة الدكتاتورية، ضاربة بعرض الحائط، مبادئ الائتلاف الوطني، وأسس الوحدة الوطنية، مستنفرة ضد وحدة الشعب ووحدة مصيره، لشيء سوى الدفاع عن الشرعية، وكأن إعادة الحقوق لأصحابها من شأنه أن يهدد الشرعية.
وحتى عندما نزلت فتح، ومن هم في حكمها من فصائل أخرى إلى الشارع في نابلس، للرد على التحركات الشعبية واحتجاجها على أداء السلطة وجورها ضد قطاع غزة، رفعت شعار الشرعية، وكأن الشرعية باتت تشمل كل من هو مؤيد للسلطة في مواقفها السياسية وتقاعسها عن الاشتباك مع الاحتلال وإدارة ترامب.
أما كل من يقف موقفاً مغايراً فبات خارج خيمة الشرعية الممزقة، لاتفاق أوسلو.
وماذا بعد؟
سيبقى هذا السؤال مطروحاً على بساط البحث:
• ترامب لن يتراجع عن مشروع صفقة العصر. فهو لم يتعرض لضغوط عربية أو فلسطينية أو دولية تتطلب منه أو تفرض عليه التراجع. بل هو سائر في ذلك إلى الأمام خطوات ملموسة، إن على الصعيد الإقليمي (إيران، سوريا، حزب الله) أو على الصعيد الفلسطيني عبر الخطوات الكبيرة التي خطاها، من القدس إلى الإستيطان، إلى حق العودة، إلى الدولة الفلسطينية المستقلة،
• نتنياهو ماضٍ في سياسته. وأبرز ما فيها توسيع مشاريع الاستعمار الاستيطاني، وهندسة المزيد من القوانين لتوفر الظروف الإسرائيلية الداخلية لاستقبال استحقاقات الحل الدائم مع الفلسطينيين.
لم يتعرض نتنياهو، لا على الصعيد السياسي، أو القانوني، أو في الميدان، ما يدفعه لإعادة النظر في مشروعه أو التوقف عن التقدم به إلى الأمام. بل على العكس من ذلك، فهو يلقى تشجيعاً أميركاً وإسناداً غير محدود، كما بات يقيم علاقات واسعة مع بعض الأطراف العربية، ما حرره من الضغوط العربية وحّول قرارات القمم العربية إلى مجرد حبر على ورق.
• أما القيادة الرسمية فمازالت تمارس سياسة الرهان على الزمن، يقودها الوهم بإمكانية تعديل خطة ترامب وخطة نتنياهو والوصول معهما إلى حل وسط، وهو حل وهمي لا وجود له إلا في عقول من يرسمون السياسة العليا في القيادة الفلسطينية. وَهمٌ مصدره تخوف هذه القيادة من التقدم إلى الأمام مع مشروع ترامب ونتنياهو، ما يحولها إلى سلطة وظيفتها تنفيذ سياسات وخطط البيت الأبيض وتل أبيب، ما يفقدها موقعها السياسي في حسابات الحالة الوطنية. ومصدره في الوقت نفسه التخوف من التقدم إلى الأمام للاشتباك مع سياسة ترامب ونتنياهو، ما يخرجها من المعادلة الإقليمية، كما ترسمها واشنطن وتل أبيب، وبعض العواصم العربية. وإن كان هذا الخروج يتم التعويض عنه بصهر الحالة الوطنية الفلسطينية في إطار المشروع الوطني، وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية عنواناً للشعب الفلسطيني، وحركته الوطنية.
أما البقاء في الوسط، على وهم أن حلاً إنقاذياً ما، سوف يأتي لاحقاً، فهذه أفضل وصفة للانتحار السياسي.
أضف تعليق