نحو يسار عربي جديد: مقدمات عامة
يواجه اليسار العربي كما يواجه اليسار في العالم أجمع، إشكالات سياسية وتاريخية متعدِّدة. إن المآل الذي آلت إليه أوضاع تياراته المختلفة، يدعونا إلى ضرورة البحث عن الوسائل التي تسمح باستعادته للقوة اللازمة ليحافظ على استمراره، ثم تقويته ليتمكَّن من القيام بالأدوار المنوطة به، داخل المشهد السياسي العربي والعالمي. وتزداد أهمية هذه المسألة، عندما نعرف أن الانحسار والتراجُع الحاصلين في الثقافة اليسارية وآليات حضورها وعملها في حاضرنا، سمح ببروز مجموعة من الخيارات والمواقف السياسية، التي أصبحت تكتسح اليوم المجال السياسي وتملأ الأمكنة والفضاءات، التي كان الفكر اليساري وتنظيماته السياسية، يمارسان فيها حضوراً يتميز بسمات خاصة.
نتصوَّر أن مشروع إعادة الاعتبار لِقِيَّم اليسار في حياتنا السياسية، يدعونا لبناء بديل تاريخي جديد، مكافئ للتحديات التي نواجه اليوم في عالمنا. ولن يتم ذلك، إلا بإنجاز مجموعة من التفاعلات الضرورية، مع مختلف التحوُّلات التي عرفها العالم في نهاية القرن الماضي ومطالع الألفية الثالثة، ذلك أن بناء بديل تاريخي لليسار في عالمنا، يتطلب الانخراط السريع في مواجهة تيارات التقليد والمحافِظة، ومختلف التراجُعات التي عرفها الفكر السياسي في العالم.
يترتَّب عن التفاعلات التي ذكرنا، إبداع مسارات وخيارات سياسية جديدة، قادرة على تَمَثُّل ما يجري في العالم أمامنا، وذلك بهدف تجاوُز حالات الانسداد القائمة، وبناء ما يُمَكِّنُنَا من تركيب بدائلها. وضمن هدا الإطار، نشير إلى أن اليسار الجديد الذي نتطلع إليه، مُطَالَب بضرورة الاستفادة من مختلف مكاسب المعرفة والتاريخ ومنجزات الطَّفْرَة التكنولوجية في مجال التواصُل، وقد أصبحت اليوم العنوان الأكبر في عالم جديد، خاصة وأن التيارات السياسية المحافِظة تتجه اليوم لاكتساح شبكات الوسائط الاجتماعية، حيث تتم إشاعة كثيرة من المواقف المُعَادِيَّة للتاريخ وللتقدم، والمُعَادِيَّة أيضاً للمستقبل. ولن يحصل التحوُّل في ثقافة اليسار، دون قيام المنتسبين لقاعدته بابتكار آليات جديدة في العمل الحزبي، قصد مواجهة صوَّر الاستبداد القائمة والمتجددة في عالمنا.
يُحيل مفهوم اليسار في تصوُّرنا اليوم، إلى أفق في الفكر وفي الممارسة، والأفق هنا، مُشْرَعٌ على فتوحات المعرفة ومكاسبها في التاريخ، نقول هذا، لأننا نعي جيداً أن مظاهر الصراع السياسي والاجتماعي في المجتمع، تحكمها اليوم آليات جديدة تقتضي من القوى اليسارية، تطوير لغتها ومرجعياتها، وكذا أنماط عملها، فلا سبيل اليوم لمقاربة أسئلة مجتمعنا، في السياسة والثقافة والإصلاح والتغيير، بمفردات ترتبط بسياقات تاريخية أخرى، ذلك أن إرادة التغيير يسبقها وعي التغيير، ولا يكون ذلك ممكناً، دون ابتكار اللغة المناسبة والمفردات المساعِدة على فهم ما يجري في تجلياته ودلالاته المختلفة.
عندما نتحدث اليوم عن أهمية اليسار وضرورته، فإننا نتحدث عن خيار سياسي مشدود إلى طموحات تاريخية كبرى ومتنوعة، طموحات تُعادل وتكافؤ تطلعات مجتمعنا للتغيير والإصلاح، وذلك بعد كل التجارب التي تحققت أو أخفقت في التاريخ. إننا لا نتحدث عن وصفة سحرية، ولعلنا نتحدث بالذات عن طريق مفتوح على ممكنات الإبداع السياسي البشري في التاريخ، حيث تُعَدُّ أسئلة التاريخ وتجاربه الإطار الأنسب لمعاينة طموحات البشر وآمالهم، بل وصراعاتهم المتواصلة، من أجل بناء مجتمعات أكثر عدلاً وأكثر توازناً.
نفهم أعطاب اليسار العربي ضمن سياقات مركَّبة ومعقَّدة، نفهمها في محيطنا المحلي والإقليمي، كما نفهمها في سياقاتها الكونية المرتبطة بمآزق وأزمات اليسار في العالم، وفي الأفقين معاً، نقرأ الأعطاب والمآزق بلغة التاريخ، ونفكر في تجاوزها أو التقليل من آثارها السلبية باللغة نفسها، حيث يمكن بناء وإنضاج المسارات المساعِدة على تخطِّيها.
وقد لا يجادل أحد في كون كثير من المآزق، التي عَطَّلَت قِوَى اليسار في مجتمعاتنا، تعود في جانب هام منها إلى غياب التحديث المؤسسي، حيث تواصل قِوَى اليسار مُطَالَبَة الأنظمة السياسية العربية بالتحديث والمأسسة والحكامة والمساءلة، في الوقت الذي تواصل فيه بعض أطرها معاملةَ الأجيال الجديدة، بأساليب في العمل تشير إلى قيم اندثرت، قيم الزوايا والمشيخات، وقد حَلَّت محلَّها قيم جديدة في عالم أكثر شفافية وأكثر تواصلاً، عالم بلا حدود ولا قيود..
كَوَّنَت النُّخَب التي بَنَت الأطر الأولى للعمل الحزبي التقدُّمي، المُتَحَرِّر من طقوس تنظيمات الزوايا والمريدين، جملة من العناصر التي نفترض أنها كانت تمهد لأنماط التعاقد التي تُعدُّ اليوم جزءاً من مقوِّمات العمل السياسي. إلاَّ أنها لم تَتَّخِد في أحزابنا اليسارية الصِّيَغ القانونية، التي تنقلها من نظام الأخويات التقدُّمي إلى نظام الحزب المُؤَسَّسَة، كما نشأت الأحزاب السياسية وتطوَّرت داخل الأنظمة السياسية الديمقراطية.
يُمكن حصر أبرز التحديات التي تواجه اليسار العبربي اليوم، في قضايا كبرى مرتبطة بدوائر الصراع السياسي المتجدِّد في مجتمعنا. وهي تحديات لا يمكن تجاوزها إلاَّ بإيجاد المخارج المناسبة لها أولاً وقبل كل شيء، حيث يُفْتَرَض أن يعين اليسار حدوده، مواقع أقدامه (مرجعيته)، ويستوعب جدليات الصراع المتحرِّكة والمتنوِّعَة في عالم متغيِّر. ونحن نتصوَّر أنه لا يمكن تعيين حدود اليسار في المشهد السياسي العربي إلا بمحاولات تنجز قراءة استرجاعية للمؤشِّرات الكبرى، الصانعة لجوانب هامة من ماضيه وحاضره، إن قوة اليسار المنتظرة، تَبْرُز في كيفية إنجازه لهذه المواجهة الضرورية والمطلوبة. وإذا لم يتم ذلك بصورة سريعة ويقظة، سنواصل العَدّ العكسي لمسيرة تشهد اليوم علامات نهايتها المتصاعدة.
إن صلابة التحديات التي يواجه اليسار في محيط العمل الحزبي في المشهد السياسي العربي، تعادلُها صلابة أخرى ترتَّبت عن تجربته في العمل السياسي في السلطة وفي المعارضة. نحن نشير هنا إلى تركة الخلل التنظيمي التي تحملها كثير من أجنحته وتياراته، كما نشير إلى عدم قدرة كثير من مُكَوِّنَاتِه على تجاوز إرثها التقليدي، في كيفيَّات تعامُلها مع تحوُّلات المجتمع والقيم في مجتمعنا.
لنتوقَّف على سبيل المثال أمام أسئلة تحديث الذهنيات، أسئلة تحديث الدولة والمجتمع. ففي هذه الموضوعات بالذات، يمكن لليسار العربي أن يُبادِر ببناء التصوُّرات والأفكار، ويُعَمِّم الأوراش والملتقيات، التي تفكر في كيفيات التحديث المكافئ والمُطابِق للتحديات التي يواجهها مجتمعنا اليوم، حيث ينتعش الفكر المحافظ بصورة غير مسبوقة في حاضرنا. فنحن لم نُدْرِك بصورة تاريخية أن سؤال العدالة والاشتراكية تستوعبه تاريخياً أسئلة التحديث والمواطنة وحقوق الإنسان. كان الأستاذ عبد الله العروي قد نَبَّه منذ ما يزيد عن أربعة عقود، إلى أن الأوضاع العربية تشبه أوضاع روسيا وإسبانيا وإيطاليا والبلقان، في أزمنة تَعَرُّف هذه الأخيرة على مقدِّمات الفكر الماركسي، الأمر الذي جعله يُقِرُّ بضرورة إيلاء جهد وعمل متواصلين من أجل تحديث مجتمعنا، تحديث قِيَّمِه في المدرسة والجامعة والمصنع والمقاولة، وتحديث تنظيماته السياسية والنقابية، ومختلف مؤسسات العمل المدني، وذلك انطلاقاً من الأهمية القصوى لهذه العملية، في تهيء شروط التفكير في التقدم والعدالة.
نفترض أن سؤال تحديث المجتمعات العربية، لا يُعَدُّ اليوم مفتاحاً لتيار سياسي بعينه، إنه سؤال يتعلق بطور من أطوار تحوُّل المجتمعات البشرية في التاريخ، ولأن العرب يُواجِهون اليوم محاولات في نشر أفكار قادمة من أزمنة خلت، فستكون مختلف طلائعه وعلى رأسها اليسار بمختلف تشكيلاته، أن يُدافِع عن التحديث باعتباره الطريق المناسب للانخراط في تاريخ جديد مرتبط بصيرورة تطوُّر الفكر والمجتمع والسياسة في مجتمعاته. إن اليسار العربي وهو يُواجِه التيارات المُحافِظة وينخرط في الدفاع عن كونية القيم التاريخية والعقلانية في عالمنا، بجانب تنظيمات ومؤسسات المجتمع المدني الحقوقية والثقافية، يصنع سمة من سمات تَمَيُّزِه عن اليسار الأوروبي واليسار العالمي. وهنا تُصبح قوته مُتَمَثِّلة في المعطيات والنماذج التاريخية، التي سيستحضر ويبني داخل دوائر الصراع الحاصل اليوم في مجتمعنا.
تُظْهِر معاينة أحوال اليسار العربي، سواء في تنظيماته أو في إعلامه ولغته، أو في نمط حضوره في المجال الافتراضي، بَعْضَ صُوَّر التَّصَلُّب التي لحقت أنماط حضوره في المشهد السياسي العربي. وضمن هذا السياق، نتصوَّر أن جوانب عديدة من مظاهر فقره النظري، تعود إلى إهماله البعد الثقافي، ولمختلف الروافد الفكرية، التي نعرف أنها منحته في أطوار تشكُّله الأولى، القوة والجاذبية اللتان كان يتمتع بهما. أما الارتباك الذي يُعَدُّ السِّمَة الملازمة لأغلب تياراته، فإنه يعود في بعض جوانبه إلى الاستبعاد البارز لِلْمُكَوِّن الثقافي في مستوياته المختلفة. وعندما نضيف إلى ذلك تشرذمَه في حلقات مغلقة، مكتفية بذاتها بطريقة لا تاريخية، ندرك أسباب التراجع التي قَلَّصَت مساحات حضوره داخل مجتمعاتنا.
إن أسئلة الانتظارات السياسية والثقافية في مجتمعنا، تدعونا أكثر من يوم مَضَى، إلى البحث في كيفية تجاوُز مظاهر الخَلَل الحاصل في الجبهة اليسارية، داخل المشهد الحزبي في أغلب المجتمعات العربية، حيث نفترض أنه لا يُمكن أن يستعيد اليسار قُوَّتَه دون تشخيص جَيِّد ودقيق لأعطابه، ودون سَعْيٍ لإعادة بناء المرجعية المناسبة لأسئلة الحاضر وتحدِّياته الكبرى.
وإذا كانت معارك اليوم في الجبهة الثقافية والسياسية، ترتبط كما وضحنا بإشكالات جديدة، يدعمها وعي شبكي مُتَعَوْلِم وعابر للحدود، وتحملها شبيبة بمواصفات مختلفة عن شباب النصف الثاني من القرن الماضي، فإن الانخراط في هذه المعارك، يتطلب أسلحة متطوِّرة وآليات في النظر والعمل، تسمح بِعَوْدَةٍ ترفع مظاهر الشلل السائدة في الثقافة اليسارية في عالمنا.
• كاتب وباحث مغربي واستاذ الفلسفة السياسية والفكر العربي المعاصر في جامعة محمد الخامس بالرباط .
نتصوَّر أن مشروع إعادة الاعتبار لِقِيَّم اليسار في حياتنا السياسية، يدعونا لبناء بديل تاريخي جديد، مكافئ للتحديات التي نواجه اليوم في عالمنا. ولن يتم ذلك، إلا بإنجاز مجموعة من التفاعلات الضرورية، مع مختلف التحوُّلات التي عرفها العالم في نهاية القرن الماضي ومطالع الألفية الثالثة، ذلك أن بناء بديل تاريخي لليسار في عالمنا، يتطلب الانخراط السريع في مواجهة تيارات التقليد والمحافِظة، ومختلف التراجُعات التي عرفها الفكر السياسي في العالم.
يترتَّب عن التفاعلات التي ذكرنا، إبداع مسارات وخيارات سياسية جديدة، قادرة على تَمَثُّل ما يجري في العالم أمامنا، وذلك بهدف تجاوُز حالات الانسداد القائمة، وبناء ما يُمَكِّنُنَا من تركيب بدائلها. وضمن هدا الإطار، نشير إلى أن اليسار الجديد الذي نتطلع إليه، مُطَالَب بضرورة الاستفادة من مختلف مكاسب المعرفة والتاريخ ومنجزات الطَّفْرَة التكنولوجية في مجال التواصُل، وقد أصبحت اليوم العنوان الأكبر في عالم جديد، خاصة وأن التيارات السياسية المحافِظة تتجه اليوم لاكتساح شبكات الوسائط الاجتماعية، حيث تتم إشاعة كثيرة من المواقف المُعَادِيَّة للتاريخ وللتقدم، والمُعَادِيَّة أيضاً للمستقبل. ولن يحصل التحوُّل في ثقافة اليسار، دون قيام المنتسبين لقاعدته بابتكار آليات جديدة في العمل الحزبي، قصد مواجهة صوَّر الاستبداد القائمة والمتجددة في عالمنا.
يُحيل مفهوم اليسار في تصوُّرنا اليوم، إلى أفق في الفكر وفي الممارسة، والأفق هنا، مُشْرَعٌ على فتوحات المعرفة ومكاسبها في التاريخ، نقول هذا، لأننا نعي جيداً أن مظاهر الصراع السياسي والاجتماعي في المجتمع، تحكمها اليوم آليات جديدة تقتضي من القوى اليسارية، تطوير لغتها ومرجعياتها، وكذا أنماط عملها، فلا سبيل اليوم لمقاربة أسئلة مجتمعنا، في السياسة والثقافة والإصلاح والتغيير، بمفردات ترتبط بسياقات تاريخية أخرى، ذلك أن إرادة التغيير يسبقها وعي التغيير، ولا يكون ذلك ممكناً، دون ابتكار اللغة المناسبة والمفردات المساعِدة على فهم ما يجري في تجلياته ودلالاته المختلفة.
عندما نتحدث اليوم عن أهمية اليسار وضرورته، فإننا نتحدث عن خيار سياسي مشدود إلى طموحات تاريخية كبرى ومتنوعة، طموحات تُعادل وتكافؤ تطلعات مجتمعنا للتغيير والإصلاح، وذلك بعد كل التجارب التي تحققت أو أخفقت في التاريخ. إننا لا نتحدث عن وصفة سحرية، ولعلنا نتحدث بالذات عن طريق مفتوح على ممكنات الإبداع السياسي البشري في التاريخ، حيث تُعَدُّ أسئلة التاريخ وتجاربه الإطار الأنسب لمعاينة طموحات البشر وآمالهم، بل وصراعاتهم المتواصلة، من أجل بناء مجتمعات أكثر عدلاً وأكثر توازناً.
نفهم أعطاب اليسار العربي ضمن سياقات مركَّبة ومعقَّدة، نفهمها في محيطنا المحلي والإقليمي، كما نفهمها في سياقاتها الكونية المرتبطة بمآزق وأزمات اليسار في العالم، وفي الأفقين معاً، نقرأ الأعطاب والمآزق بلغة التاريخ، ونفكر في تجاوزها أو التقليل من آثارها السلبية باللغة نفسها، حيث يمكن بناء وإنضاج المسارات المساعِدة على تخطِّيها.
وقد لا يجادل أحد في كون كثير من المآزق، التي عَطَّلَت قِوَى اليسار في مجتمعاتنا، تعود في جانب هام منها إلى غياب التحديث المؤسسي، حيث تواصل قِوَى اليسار مُطَالَبَة الأنظمة السياسية العربية بالتحديث والمأسسة والحكامة والمساءلة، في الوقت الذي تواصل فيه بعض أطرها معاملةَ الأجيال الجديدة، بأساليب في العمل تشير إلى قيم اندثرت، قيم الزوايا والمشيخات، وقد حَلَّت محلَّها قيم جديدة في عالم أكثر شفافية وأكثر تواصلاً، عالم بلا حدود ولا قيود..
كَوَّنَت النُّخَب التي بَنَت الأطر الأولى للعمل الحزبي التقدُّمي، المُتَحَرِّر من طقوس تنظيمات الزوايا والمريدين، جملة من العناصر التي نفترض أنها كانت تمهد لأنماط التعاقد التي تُعدُّ اليوم جزءاً من مقوِّمات العمل السياسي. إلاَّ أنها لم تَتَّخِد في أحزابنا اليسارية الصِّيَغ القانونية، التي تنقلها من نظام الأخويات التقدُّمي إلى نظام الحزب المُؤَسَّسَة، كما نشأت الأحزاب السياسية وتطوَّرت داخل الأنظمة السياسية الديمقراطية.
يُمكن حصر أبرز التحديات التي تواجه اليسار العبربي اليوم، في قضايا كبرى مرتبطة بدوائر الصراع السياسي المتجدِّد في مجتمعنا. وهي تحديات لا يمكن تجاوزها إلاَّ بإيجاد المخارج المناسبة لها أولاً وقبل كل شيء، حيث يُفْتَرَض أن يعين اليسار حدوده، مواقع أقدامه (مرجعيته)، ويستوعب جدليات الصراع المتحرِّكة والمتنوِّعَة في عالم متغيِّر. ونحن نتصوَّر أنه لا يمكن تعيين حدود اليسار في المشهد السياسي العربي إلا بمحاولات تنجز قراءة استرجاعية للمؤشِّرات الكبرى، الصانعة لجوانب هامة من ماضيه وحاضره، إن قوة اليسار المنتظرة، تَبْرُز في كيفية إنجازه لهذه المواجهة الضرورية والمطلوبة. وإذا لم يتم ذلك بصورة سريعة ويقظة، سنواصل العَدّ العكسي لمسيرة تشهد اليوم علامات نهايتها المتصاعدة.
إن صلابة التحديات التي يواجه اليسار في محيط العمل الحزبي في المشهد السياسي العربي، تعادلُها صلابة أخرى ترتَّبت عن تجربته في العمل السياسي في السلطة وفي المعارضة. نحن نشير هنا إلى تركة الخلل التنظيمي التي تحملها كثير من أجنحته وتياراته، كما نشير إلى عدم قدرة كثير من مُكَوِّنَاتِه على تجاوز إرثها التقليدي، في كيفيَّات تعامُلها مع تحوُّلات المجتمع والقيم في مجتمعنا.
لنتوقَّف على سبيل المثال أمام أسئلة تحديث الذهنيات، أسئلة تحديث الدولة والمجتمع. ففي هذه الموضوعات بالذات، يمكن لليسار العربي أن يُبادِر ببناء التصوُّرات والأفكار، ويُعَمِّم الأوراش والملتقيات، التي تفكر في كيفيات التحديث المكافئ والمُطابِق للتحديات التي يواجهها مجتمعنا اليوم، حيث ينتعش الفكر المحافظ بصورة غير مسبوقة في حاضرنا. فنحن لم نُدْرِك بصورة تاريخية أن سؤال العدالة والاشتراكية تستوعبه تاريخياً أسئلة التحديث والمواطنة وحقوق الإنسان. كان الأستاذ عبد الله العروي قد نَبَّه منذ ما يزيد عن أربعة عقود، إلى أن الأوضاع العربية تشبه أوضاع روسيا وإسبانيا وإيطاليا والبلقان، في أزمنة تَعَرُّف هذه الأخيرة على مقدِّمات الفكر الماركسي، الأمر الذي جعله يُقِرُّ بضرورة إيلاء جهد وعمل متواصلين من أجل تحديث مجتمعنا، تحديث قِيَّمِه في المدرسة والجامعة والمصنع والمقاولة، وتحديث تنظيماته السياسية والنقابية، ومختلف مؤسسات العمل المدني، وذلك انطلاقاً من الأهمية القصوى لهذه العملية، في تهيء شروط التفكير في التقدم والعدالة.
نفترض أن سؤال تحديث المجتمعات العربية، لا يُعَدُّ اليوم مفتاحاً لتيار سياسي بعينه، إنه سؤال يتعلق بطور من أطوار تحوُّل المجتمعات البشرية في التاريخ، ولأن العرب يُواجِهون اليوم محاولات في نشر أفكار قادمة من أزمنة خلت، فستكون مختلف طلائعه وعلى رأسها اليسار بمختلف تشكيلاته، أن يُدافِع عن التحديث باعتباره الطريق المناسب للانخراط في تاريخ جديد مرتبط بصيرورة تطوُّر الفكر والمجتمع والسياسة في مجتمعاته. إن اليسار العربي وهو يُواجِه التيارات المُحافِظة وينخرط في الدفاع عن كونية القيم التاريخية والعقلانية في عالمنا، بجانب تنظيمات ومؤسسات المجتمع المدني الحقوقية والثقافية، يصنع سمة من سمات تَمَيُّزِه عن اليسار الأوروبي واليسار العالمي. وهنا تُصبح قوته مُتَمَثِّلة في المعطيات والنماذج التاريخية، التي سيستحضر ويبني داخل دوائر الصراع الحاصل اليوم في مجتمعنا.
تُظْهِر معاينة أحوال اليسار العربي، سواء في تنظيماته أو في إعلامه ولغته، أو في نمط حضوره في المجال الافتراضي، بَعْضَ صُوَّر التَّصَلُّب التي لحقت أنماط حضوره في المشهد السياسي العربي. وضمن هذا السياق، نتصوَّر أن جوانب عديدة من مظاهر فقره النظري، تعود إلى إهماله البعد الثقافي، ولمختلف الروافد الفكرية، التي نعرف أنها منحته في أطوار تشكُّله الأولى، القوة والجاذبية اللتان كان يتمتع بهما. أما الارتباك الذي يُعَدُّ السِّمَة الملازمة لأغلب تياراته، فإنه يعود في بعض جوانبه إلى الاستبعاد البارز لِلْمُكَوِّن الثقافي في مستوياته المختلفة. وعندما نضيف إلى ذلك تشرذمَه في حلقات مغلقة، مكتفية بذاتها بطريقة لا تاريخية، ندرك أسباب التراجع التي قَلَّصَت مساحات حضوره داخل مجتمعاتنا.
إن أسئلة الانتظارات السياسية والثقافية في مجتمعنا، تدعونا أكثر من يوم مَضَى، إلى البحث في كيفية تجاوُز مظاهر الخَلَل الحاصل في الجبهة اليسارية، داخل المشهد الحزبي في أغلب المجتمعات العربية، حيث نفترض أنه لا يُمكن أن يستعيد اليسار قُوَّتَه دون تشخيص جَيِّد ودقيق لأعطابه، ودون سَعْيٍ لإعادة بناء المرجعية المناسبة لأسئلة الحاضر وتحدِّياته الكبرى.
وإذا كانت معارك اليوم في الجبهة الثقافية والسياسية، ترتبط كما وضحنا بإشكالات جديدة، يدعمها وعي شبكي مُتَعَوْلِم وعابر للحدود، وتحملها شبيبة بمواصفات مختلفة عن شباب النصف الثاني من القرن الماضي، فإن الانخراط في هذه المعارك، يتطلب أسلحة متطوِّرة وآليات في النظر والعمل، تسمح بِعَوْدَةٍ ترفع مظاهر الشلل السائدة في الثقافة اليسارية في عالمنا.
• كاتب وباحث مغربي واستاذ الفلسفة السياسية والفكر العربي المعاصر في جامعة محمد الخامس بالرباط .
أضف تعليق